مسرحية الماشي في الهواء، إضافة إلى التلاعب باللغة، تحتاج إلى آلة وتكنولوجيا، فطيران بيرانجيه أكثر تعقيداً من طيران اميديه، إضافة إلى أنه يتطلّب من الممثل موهبة كبيرة في الإيماء. لا يتمّ الحصول على جوّ الأحلام من خلال قماش التول الفضفاض أو عن طريق ظهور الخيالات والأشباح، بل عن طريق حضور واضح وتقديم الأحداث الخارقة بشكل واضح جلي. لقد ألحّ يونسكو على فكرة أن الأحلام غالباً ما تكون واقعية أما في رؤى الكوابيس فإن الشخصيات تبدّل سحنتها وتغدو غريبة بشعة. أخيراً، تلعب الإضاءة دوراً هامّاً. شلال النور المتساقط على الجسر الفضي، وتدرّج اللون الرمادي، والظلمة التي تخترقها البروق، والحرائق، تترجم حالات شعورية لدى الشخصيات، إنها تعبّر عن الفرح والحزن والقلق. العالم ما وراء العالم. يجب أن لا يكون لدينا سوى فكرة واحدة، وهدف واحد: تحقيق بهجة الآخر كما كتب يونسكو في يوميات في فتات. مشكلة العلاقات مع الآخرين هي الموضوع الأساسي في مسرحية الماشي في الهواء. يحلم بيرانجيه بعالم من اللطف والرقة لا يكون الموت فيه شرّاً. يقول ذلك إلى مارتا التي قدّمت الأزهار إليه: لا أقاوم الحركات الرقيقة اللطيفة. آه! لو كان كل الناس مثلك! سيعيش الإنسان في عالم من النعومة، وستغدو الحياة ممكنة، وبمقدور المرء مواجهة الموت بهدوء، دون ألم... تجسّد مارتا الحب والثقة. إنها معجبة بأبيها إعجاباً لا حدود له. أمّا جوزفين الغيورة نوعاً ما، فقد لفتت نظر البنت لذلك: ليس لأنه والدك مفروض عليك أن تقبلي كل ما يقول دون تفكير! جوزفين شخصية معقّدة، يذكّرنا عنفها وحدّتها بمادلين في ضحايا الواجب ، أو اميديه. توبّخ بيرانجيه في كل مناسبة، لكنها في الحقيقة تحبه، تحب لطفه وظرفه، و حماقاته: على كل حال، من الأفضل أن يمزح، وعندما لا يتفوّه إلاّ بالحماقات فذلك يعني أنه حزين. هذه الرقة الخرقاء تكشف ارتباط جوزفين ببيرانجيه وحاجتها الماسّة في أن تكون محبوبة، آمنة، كما أن تلك الرقة تفضح خوفها من أن تُهجر، وحبها للسيطرة الذي سرعان ما يبلغ حدّ الحيرة واليأس. تعكس المشاعر المعقّدة لدى بيرانجيه وجوزفين ومارتا العلاقات العائلية فيما بينهم، أمّا الشخصيات الأخرى فإنها تطرح مسألة العلاقات الاجتماعية.. تنقلنا الحركة في المسرحية من رسم عالم نهاري إلى رسم عالم الأحلام ثم إلى صورة ما وراء العالم. العالم الأول ليس سوى الظاهر، والآخران هما الحقيقة. المتنزهون المطمئنون هم بشر برأس أوزة، وهم طوابير المحكومين بالإعدام، المشاعر الحقيقية هي المشاعر التي تعبّر عنها شخصيات الكوابيس: يعلن الصحفي أن الصداقة ما هي سوى القناع لضعفنا، وللكراهية المكبوتة الخجولة. جون بول مسلّح بسوط أو بندقية آلية... ما وراء العالم ما هو سوى العالم الذي نعيش فيه، نحن مهددّون بطغيان الخنازير والقرود ، بالمقصلة والسكاكين. لهذه الصور، في رأي يونسكو، دلالات واضحة جداً، إنها تبيّن ببساطة ما يجري في نصف الكون، وأن النصف الآخر لا يريد أن يرى بسبب التعمية واللامبالاة والمواقف المسبقة: هنالك عشرات الملايين من الناس مهانون، أذلاء، والرعب يقيم في نفوسهم، وهنالك الطغيان، والسلطات التي صارت مجنونة، وباختصار، ثمة نهاية للعالم تحدث كل يوم.... تفضح مسرحية الماشي في الهواء من جديد، وبعدما رأيناه في قاتل بلا أجر و الكركدن ايديولوجيات العنف والدكتاتوريات. لكن نبوءة الشقاء لم تُسمع. يقول بيرانجيه: لا يصدّقني أحد، كنت أعرف حق المعرفة أنه لن يصدقني أحد[...] حتى لو كانوا صدقوني، حتى لو كانوا صدقوني... ويقول يونسكو: لم يفهم النقاد الباريسيون، باستثناء البعض أمثال كانتر، لومارشان، غوتييه، شيئاً من هذه القصة رغم بساطتها العظيمة. يجب الاحتراس من إرجاع مغزى المسرحية إلى الرغبة في الجدل والمناظرة فالملاحظة التي أبداها يونسكو يجب أن لا تؤخذ حرفياً؛ وإن العلاقات بين العالم و ماوراء العالم معقّدة جداً كما قلنا من قبل.