في الحقيقة يرى يونسكو في جارّي، ابو للينير، فيتراك شخصيات يلتقي بها. نتعرّف في فنّه المسرحي على تأثير انتونات ارتو بشكل خاص. ارتو المطبوع بأفكار جارّي، المعروف بمشاركته في السريالية الأولى، بتجربته كممثل، كمخرج، كمدير مسرح، كمؤلف. ارتوهو، قبل كل شيء، منظّر جريء. في عام 1931، كشفت له فرقة مسرحية من بالي باندونّسيا، قدّمت عروضها في باريس، عن جوهر المسرح ومهمته الحقيقية. تحدّد مجموعة من المقالات والمنشورات كتبت مابين (1930-1936)، وجمعت في كتاب المسرح وبديله، تصوّره عن مسرح القسوة، وكلمة القسوة مأخوذة هنا بالمعنى الغنوصي، لزوبعة الحياة التي تلتهم الظلمات. وجد آرتو القيمة الميتافيزيكية للمسرح في ذلك النموذج البالي (نسبة إلى جزيرة بالي). التمثيلية احتفال سرّي يفرض على المشاركين فيه الاشتراك في وجود فوق إنساني أو لا إنساني: تحدث لعبة خطيرة في كل عرض [....] إننا نمثّل حياتنا في العرض الذي تجري أحداثه على المنصّة [....] الديناميكية الداخلية تهزّ المتفرج وتبدّله؛ كما أن هذه الديناميكية ستكون على علاقة مباشرة مع مخاوف واهتمام حياته كلها. لإيجاد هذه القوة السحرية لابدّ من الابتعاد عن التقاليد الغربية لمسرح التسلية واستلهام أشكال مستمدّة من المسرح الشرقي؛ لابدّ من رفض العقدة واستبدالها بحركة يتمّ الصعود والهبوط فيها على إيقاع نبض الحياة؛ لابدّ من رفض الأفكار الواضحة التي هي أفكار ميتة. المسرح هو مكان الأساطير. يجب أن ننتهي من علم النفس الذي يحاول جاهداً إرجاع المعلوم إلى مجهول، بتعابير أخرى، يجب على المسرح أن يتابع بشتى الوسائل إعادة طرح، ليس فقط كل مظاهر العالم الموضوعي والوصفي الخارجي، بل مظاهر العالم الداخلي أيضاً، أي الإنسان من منطلق ميتافيزيكي. يجب أن لا تبقى اللغة وسيلة اتصالية بل أداة لاستكشاف مافوق الواقع. يجب على الحوار إذن أن يفسح المكان لكلام مسرحي يؤثر على المشاهدين بماديته. بتطابقه مع الأشياء، بقيمته السحرية: إن تحقيق ميتافيزيكية اللغة الواضحة يعني تسخير اللغة للتعبير عمّا تعجز عن التعبير عنه عادة؛ هذا يعني استخدامها بطريقة جديدة استثنائية غير مألوفة؛ هذا يعني أن تُعاد لها إمكاناتها في الزلزلة المادية، ذلك يعني تقسيمها وإطلاقها بنشاط في المكان، هذا يعني أن نأخذ النبرات بطريقة واضحة مطلقة وأن تُردّ لها قدرتها السابقة على التمزيق وإظهار شيء ما بشكل حقيقي؛هذا يعني أن نواجه اللغة وينابيعها النفعية الرخيصة، الغذائية، إذا صحّ القول، أن نواجه جذورها كحيوان مُطارد، هذا يعني أخيراً أن تأخذ اللغة شكلها التعويذي السحري. لكن الكلام ليس المسرح كلّه.تنضوي المسرحية تحت عناوين الكلمات، وأداء الممثلين والديكور والإضاءة والموسيقى. هنا أيضاً يرفض آرتو التقاليد الغربية ويعتقد أن الإخراج ليس مجرّد صدى للنص؛ إنّه لغة لها شاعريتها ومغزاها الخاصان: المنصة مكان مادي محدّد يطالب أن يُملأ وأن يتحدث لغته الواضحة. الجسد البشري والأشياء، وقد صارت دلائل وسمات أو كتابة هيروغليفية، تؤلف رموزاً يمكن قراءتها مباشرة، والتمثيلية تخاطب الحواس مثلما تخاطب العقل والخيال: عملياً، نريد أن نبعث فكرة من المشهد الكلي حيث يعرف المسرح كيف يقتبس من السينما والميوزيك هول والسيرك ومن الحياة أيضاً.ما كان يخصّه في جميع الأزمان، فهذا الفصل بين المسرح التحليلي والعالم التشكيلي، يبدو لنا بمثابة حماقة. لا يتمّ الفصل بين الروح والجسد، ولا بين الحواس والذكاء خصوصاً في المجال الذي تحتاج فيه الأعضاء التي تتعرّض لتعب متجدد باستمرار إلى هزّات مفاجئة لإنعاش إدراكنا. يطرح أرتو أيضاً مسألة هندسة المسرح:إننا نلغي المنصة والصالة ونضع بدلاً عنهما مكاناً وحيداً، بلا حاجز من أي نوع كان. سنحصل على مسرح الحدث؛ وستنشأ علاقة مباشرة بين المشاهد والمسرحية، بين الممثل والمشاهد، لأن المشاهد، وقد استقرّ وسط الحدث، يصبح محاطاً ومتأثراً به. هكذا يشعر المشاهد أن الأمر يخصّه فيشارك فيه. للعرض قيمة التعويذة. أمّا التمثيل التعبيري -الممثل رياضي يعبّر عن المشاعر- فإنّه يقود الانفعال إلى ذروته. لكي يؤثر المسرح يجب أن يكون عنيفاً إذا لم يكن هناك بعض القسوة في أساس كل مسرحية لا يكون المسرح ممكناً، ففي حالة الانحطاط التي نحن فيها، يتّم إدخال الميتافيزياء إلى العقل عن طريق الجلد. لهذا السبب يقارن آرتو بين مسرح العنف والطاعون. المسرح مدّمر مثل الطاعون؛ ومثل الطاعون أيضاً يوقظ قوى اللاوعي: إذا كان المسرح كالطاعون فليس ذلك فقط لأنّه يؤثر على جماعات كبيرة ويحوّلها إلى اتجاه حقيقي. هناك في المسرح، كما في الطاعون، شيء ما منتصر ومنتقم. هذا الحريق العفوي الذي يشعله الطاعون حيثما مرّ، يُشعرَ المرءَ جيداً أنّه ليس إلاّ دماراً هائلاً [....] يأخذ الطاعون الصور الغائمة والفوضى الكامنة ثم يدفعهما فجأة إلى أكثر التصرّفات تطرّفاً: المسرح أيضاً يأخذ تصرّفات ويدفعها حتى النهاية. إنه مثل الطاعون يعيد خلق الصلة بين ماهو موجود وبين مالا وجود له، بين قوة الممكن وبين ماهو كائن فعلاً في الطبيعة بشكلها المادي [....] المسرحية الحقيقية تقلق راحة الحواس، تحرر اللاوعي المكبوت، وتحرّض على ثورة افتراضية، لا يمكن أن تكتسب كامل قيمتها إلاّ ببقائها إمكاناً، وتفرض على الجماعات المحتشدة موقفاً بطولياً صعباً. يستبعد آرتو المسرح المعتدل والتفريق بين الأنواع:يمرّ المسرح المعاصر في مرحلة تراجع لأنّه فَقَدّ الإحساس بالجديّة من ناحية والإحساس بالهزل من ناحية أخرى؛ ولأنّه قطع علاقاته مع الخطورة، مع الفاعلية المباشرة المؤذية، مع الخطر بشكل عام. لأنّه أضاع حس النكتة الصحيحة والقدرة على تفكيك الضحك المادي والفوضوي. لأنّه قطع صلاته مع روح الفوضى العميقة التي هي أساس كل شعر. قوّة المسرح وأهميته تجعلانه تعويذة تطرد شياطيننا. يفجّر المسرح بنية الكون ويطرح مسألة الوجود من جديد:الشعر (في المسرح) فوضوي بمقدار مايطرح مسألة علاقات الأشياء مع بعضها، وعلاقات الأشكال مع مدلولاتها.. إنه فوضوي أيضاً بمقدار مايكون ظهوره نتيجة اضطراب يقرّبنا من العشوائية. الفكاهة والشعر والخيال لا تقول شيئاً إذا كانت من خلال عملية تدمير فوضوية، منتجة لمجموعة ضخمة من الأشكال ستكون المشهد المسرحي بتمامه، لم تتوصل إلى طرح موضوع الإنسان حيث عضويته، أفكاره عن الواقع، ومكانته الشعرية في الواقع. بالنسبة لصاحب نظرية مسرح العنف، يتعلق الأمر، إجمالاً بتغيير الحياة.