شراء كتاب لتعلم اللغة الانكليزية، والحقائق التي اكتشفتها يونسكوفيه، والإشراق الذي انبثق منه، واتخاذ القرار في نقل تلك الاكتشافات، ثم تقطيع أواصر الكلام الذي صار ضرباً من الجنون.. هذه الحيثيات كلها ارتبطت - منذ أمد قريب - بأسطورة المسرح الجديد. عندما ارتفعت الستارة في 11 أيار 1950، في مسرح نوكتامبول، رأى المشاهدون القلائل بعض قطع الأثاث على المسرح الخالي تقريباً، مما يوحي بوجود صالة بورجوازية، وشاهدوا شخصين يرتديان بدلتين من طراز اهتمّ أنت باميلي. لوحة تفتقد الهوية، لكن صوتاً نادى ابدأ أكد أن كل ماعلى المسرح إنكليزي أصيل: المقعد المريح، الأخفاف، الغليون، الجريدة، شوارب السيد سميث، النار وساعة الحائط، السيدة سميث التي تطرز.. كلها انكليزية.. هذه الأمسية الانكليزية تبدأ بلحظة صمت انكليزية طويلة. دقت الساعة سبع عشرة دقة - انكليزية - فعرفت السيدة سميث أن الساعة هي التاسعة، وبينما كانت تغرز إبرتها راحت تذكر برضى أصناف وجبة العشاء، وتشرح الطريقة المثلى لتحضير البطاطا مع شحم الخنزير، وتقارن بين زيت بقال الناصية وزيت البقال المقابل مع زيت البقال عند الشارع الجانبي؛ وتؤكد ضرورة إضافة كمية مناسبة من الملح مع الحساء، كمية لا كبيرة ولا قليلة، وتوضّح طريقة إعداد كعكة السفرجل، وتعدّد بالتفصيل منافع السمك، واللبن البلغاري، كما أن هناك لبن ولبن.. راح طوفان ثرثرتها التافهة يلطم أسوار الجريدة المفتوحة إلى أقصاها التي يحتمي خلفها، فلا يُرى، السيد سميث برباطة جأش تذكرنا بفلياس فوغ(1). وفي شلال الكلمات يسيل هنا وهناك تعابير مبتذلة مقلقة: لاشك أن ولدنا الصغير كان يريد أن يشرب بيرة، ويود لو يملأ معدته، إنه يشبهك. اللبن الرائب نافع جداً للمعدة والكليتين والتهاب الزائدة، ولتألق العظماء. أخيراً، مدّ السيد سميث رأسه ليؤكد أن الطبيب الجيد يجب أن يموت مع مريضه مثلما يغرق قبطان السفينة مع سفينته؛ كما أنه أصيب بالذهول، من ناحية أخرى، لأنه قرأ في الجريدة أن دائرة السجل المدني تذكر دائماً عمر المتوفين بينما لا تذكر إطلاقاً أعمار حديثي الولادة. خيم صمت طويل دقت الساعة أثناءه سبع دقات، ثم خيّم صمت آخر دقت خلاله ثلاث دقات، وفي فترة الصمت الثالثة لم تدق الساعة أبداً. راح السيد والسيدة سميث يتناقشان بتأثر وانفعال عن بوبي واطسن المسكين، لقد توفي منذ سنتين أو ثلاث، وقد تم دفنه منذ ثمانية عشر شهراً. إنها أجمل جثة في بريطانيا العظمى! لم تكن تكشف عن عمر صاحبها الحقيقي، مسكين بوبي، لقد توفي منذ أربع سنوات، وكان لايزال دافئاً عند دفنه، إنها جثة حقيقية حية، كم كان ظريفاً!. كانت زوجة بوبي واطسن تسمي بوبي واطسن مثله، ولذا كان الأمر يلتبس على من يراهما معاً. كان لهما ولد اسمه بوبي، وبنت اسمها بوبي بالطبع. في عائلتهم إذن كان الجميع يدعون بوبي واطسن: العم، العمة العجوز، ابن العم، والجدة، والعم الثاني، وابن العم الثاني، حتى الكلب كان اسمه بوبي واطسن. كانوا جميعاً وكلاء جوالين، عدا ثلاثة أيام في الأسبوع: الثلاثاء، الخميس، الثلاثاء. رغم حماس السيدة سميث فإن آل بوبي واطسن لم يكونوا موضوعاً لحوار لا ينتهي وسوف ينتهي هذا الحوار الانكليزي عندما تظهر ماري - امرأة ذات إغراء لا يقاوم لكنها فتاة حمقاء. أعلنت ماري عن وصول السيد والسيدة مارتان: كانا ينتظران عند الباب ولم يدخلا عند اختفائها داخل البيت. أدخلتهما ماري بينما راح السيد والسيدة سميث يرتديان ثيابهما. جلس السيد والسيدة مارتان بخجل، كل منهما قبالة الآخر وراحا ينظران لبعضهما خلسة، ويحاولان الابتسام دون كلام؛ ثم يتبادلان النظرات من جديد. أخيراً قرر السيد مارتان أن يبدأ الكلام: - أرجو قبول اعتذاراتي يا سيدتي، لكن يخيّل لي، إن لم أكن مخطئاً، أنني قابلتك من قبل في مكان ما. - وأنا كذلك يا سيدي؛ يخيل لي أنني قابلتك من قبل في مكان ما. لقد اكتشفا باندهاش أنهما من مانشستر، وأنهما غادرا المدينة قبل خمسة أسابيع في قطار الثامنة والنصف صباحاً وقد وصل القطار إلى لندن الخامسة إلا ربعاً وأنهما سافرا في الدرجة الثانية في المقصورة السادسة من العربة الثامنة. ما أغرب ذلك، وكم هو مثير للفضول، يا للمصادفة! ومنذ أن وصلا إلى لندن سكنا في الشارع نفسه، والبناية نفسها، والطابق نفسه، ما أغرب ذلك! لقد ناما في الغرفة ذاتها، عند نهاية الممر، بين الحمام والمكتبة، ما أعجب ذلك! لقد ناما في السرير عينه. يا للمصادفة العجيبة! وبعد صمت طويل من التفكير العميق دقت الساعة خلاله تسعاً وعشرين دقة، نهض السيد والسيدة مارتان بطريقة احتفالية: - إذن، يا سيدتي العزيزة، أعتقد أن لا مجال للشك بأننا تقابلنا من قبل وأنك زوجتي.. لقد وجدتك من جديد يا إليزابيت! - دونالد، هذا.. أنت يا حبيبي! ماري - وهي في الحقيقة شرلوك هولمز - تعلّق على المشهد: ثم عاد آل سميث. لقد تعثر الحوار قليلاً في البداية: تفاهات، سعال مصطنع، فترات طويلة من الصمت، ابتسامات عريضة، كلام عن الطقس.. ثم رنّ جرس الباب. قامت السيدة سميث لتفتح الباب. لا أحد هناك.. ولمّا حدث ذلك ثلاث مرات سمح لها المنطق التجريبي أن تستنتج ما يلي: علمتنا التجربة أنه عندما نسمع جرس الباب فذلك يعني أن لا أحد هناك، وفي المرة الرابعة، قام السيد سميث ليفتح الباب.. وعاد ومعه رئيس فرقة للإطفاء. روى الرجل بعض النكات السخيفة، وحكاية تجريبية ليس لها أساس من راس.. كان يضحك ملء شدقيه، وحده، ثم انتهى بحكاية عن الزكام، وختم حكايته بجملة طويلة، مؤلفة من عدة جُمل وصلية، ومعترضة، تتسلل وتنزلق بين ردود وشروحات الشخصيات الأخرى: - كان لأخ زوجتي، من ناحية الأب، ابن عم ألماني، أحد أعمامه، من ناحية الأم، كان له أخ زوجة كان جدّه لأبيه قد تزوج مرة ثانية صبيّة من المنطقة كان أخوها قد التقى، أثناء إحدى أسفاره فتاة، فشغف بها، ومعها... راح رئيس فرقة الإطفاء يتكلم ويتكلم ويتكلم ثم توقّف فجأة عند أربع فواصل، أربع انقطاعات في موجة تبخرت فجأة: - .. وكان والده قد عاش في كندا عند سيدة عجوز، كانت ابنة أخ الخوري الذي كانت جدته تُصاب، غالباً، في فصل الشتاء، مثلها مثل جميع الناس، بالزكام. راحت ماري تنشد بدورها قصيدة حماسية على شرف رئيس فرقة الإطفاء، لكن هذا الأخير ترك السهرة لأن حريقاً شبّ في طرف المدينة (كان موعد الحريق مسجلاً في مفكرته منذ عدة أيام) حريق لا قيمة له: نار في كومة قش وحرق بسيط في المعدة. عاد الحوار من جديد بين آل مارتان وآل سميث والأصح أن يُقال أن كل واحد منهم كان يتحدث لنفسه ويعلن حقائق أساسية: - يمكنني أن أشتري سكين جيب لأخي بينما لا يمكنك أن تشتري ايرلندا لجدك. - يسير المرء على رجليه لكنه يستمد الدفء من الكهرباء أو من الفحم[...] - عندما أكون في الريف أحب العزلة والهدوء. هذه الحقائق تتشوه والكليشهات تختلط، والردود لم تعد أكثر من مقاطع صوتية رنانة، والعلاقات المنطقية اختفت وحل محلها ترديد سخيف لما يقوله الآخرون: - إنني أحب عصفوراً في حقل أكثر من جورب في نقّالة. - شبكة في شاليه خير من حليب في قصر. ثم يتسارع الإيقاع وتغدو اللهجة عنيفة، ويبدو الأشخاص كأنهم يختصمون: - لا تلمس بابوجي. - لا تحركْ البابوج. - المسْ الذبابة، الذبابة لا تلمس. - الذبابة تتحرك. - امسحْ فمك. - امسحْ مضرب الذباب، امسح مكشّة الذباب. - مناوش مناوش. - سكاراموش (المناوشة) - سانت نيتوش (البراءة المزيفة) - لديك سرير! - أنت تلجمني - سانت نيتوش تلمس خرطوشتي. - لا تلمسوها، إنها محطمة(1) تنتهي الجُمل بالتفتت، والكلمات تتفجر صراخاً وضجيجاً، تتحول إلى مقاطع، إلى حروف رنانة وحروف صوتية يتقاذفها الأبطال في سورة من الغضب وهم يركضون على المسرح. ليل، نور، السيد والسيدة مارتان يجلس كل منهما على مقعد مريح. السيد مارثان يقرأ جريدته والسيدة مارتان تطرز. تدق الساعة سبع عشرة دقة فتعلن السيدة مارتان أن الوقت هو الساعة التاسعة، ثم وهي تغرز أبرتها..