حوالي عام 1921 أقام مع أخته في لاشابيل - انتونيز، وهي قرية صغيرة في منطقة المايين. "كنت مريضاً، مصاباً بفقر الدم، فأرسلتني والدتي لأسكن في مزرعة في الريف وأستعيد صحتي ونضارتي"(2). أمّا وقد اعتاد الباريسي الصغير على رؤية السماء الرمادية والبيوت العالية السوداء فقد دهش عند وصوله، من صفاء الألوان، وانتشى من الأريج، وبدت له محطة السكة الحديدية والقضبان وسط الحقول ذات "جمال خيالي".(3) "نزلنا من القطار، على عكس اتجاه الطريق المألوف. انتظرنا، مع حقائبنا، أن ينطلق القطار. كانت المحطة صغيرة، وردية تحت أشعة الشمس، في قلب الريف، وسط الخضرة: أسيجة وأشجار وحقول [..] لمحتُ في البعيد جرس الكنيسة فحسبته برجاً في قصر. اعتقدت أننا سنسكن هناك، في غرف فسيحة مظلمة، خلف الأسوار، كما كانت تظهر في صور كتاب التاريخ وحكايات الجن"(4). كانت ذكريات تلك الفترة تؤلف صورة الفردوس.. كانت قرية مولان التي أقام فيها وسط وادٍ صغير، عند تقاطع ثلاث طرق، تحيطها القمم العالية المكسوّة بالأشجار والأدغالِ الخضراء: إنها عش حقيقي. في الشتاء، تصبح طريق القرية غير صالحة للاستعمال فتنطوي قرية مولان على نفسها، وفي الربيع تنفتح على منظر بديع يفيض بالأناشيد والألوان والعطور. إنه بعث لعالم حيث، عالم من طين: يتحوّل العش الصغير إلى مدى فسيح رحب.. "هناك حقاً اتحاد بين السماء والأرض"(5). لا وجود للزمن في لاشابيل - انتونيز. دورة الفصول، تسلسل الأعمال، يعيشها المرء في اللحظة الراهنة، خارج مسار الزمن: "تبتعد الأشياء، وتعود، وأنا ثابت في مكاني: يمضي الربيع، بسمائه وأزهاره، نعم، كان ينقضي، ويحلّ الصيف محلّه، أما الشتاء فيحمل معه ألواناً أخرى، أو مناظر متنوّعة، ثم يعود الربيع. إنه العالم يدورحولي، الزمن دولاب يدورحولي، وأنا أشعر أنني ثابت، خالد"(1). الريف، ومولان، وإيقاع حياة الفلاحين، "الأعمال والأيام" تلك الصور الغنية برمزية قديمة مواتية لإستلهام الشعر. إنها موجودة في المسرح وهي تعني الفرح والدهشة والجمال. بينما كان يتشرد على الطرقات الوعرة، وفي الغابات الكثيفة، بينما كان يقرأ كتباً مصورة وكرّاسات تحضّ على التقى، ومطبوعات قديمة يجدها في المستودع، أو عندما يشرد ذهنه عن دروس الأب "غينيه"، كان الطفل يحلم أن يصبح قديساً أو ماريشالاً: "أريد أن أصبح قديساً، هذا هو المجد العظيم. لا أريد أن يكون قدري تافهاً. قرأت الكتب الدينية (وقد سئمت منها)، يجب على المرء أن لا يبحث عن المجد، والمرء لا يأتي إلى هذا العالم ليمجّد نفسه. لن أكون إذن قديساً، قرأت سيرة تورين وكونديه في كتب مكتبة المدرسة فقرّرت أن أصبح ماريشالاً" (2). لقد اهتم بالمسرح أيضاً. في الصيف، كنا نتسلّى بتمثيل المسرحيات. كانت سيمون تحمل عصا بيدها وكنا نجتمع حولها؛ قرب أكداس من القش، وسط الساحة، كانت تقرأ علينا الأشعار، وترقص، ثم علمتني كيف أقول: هناك نوعان من الحساء، الحساء الدسم والحساء قليل الدسم، وأنا أتمنى لك رغد العيش(3).