تابع يونسكو استكشاف عالم اللاوعي حسب طرائق قريبة من التحليل النفسي، فكتب مسرحية اميديه أو كيف نتخلص منها وقد أتمها في آب 1953 في سيريزي لاسال، وهي عبارة عن كوميديا من ثلاثة فصول قدمها جان - ماري سيرو على مسرح بابيلون في 14 نيسان 1954. شرح يونسكو ببراءة خادعة هي كل دعابته، لجمهور المعهد الفرنسي في لندن ما يلي: في هذه المسرحية سرد لحادث يمكن أن نجده في أية جريدة. يروي الحادث قصة عادية يمكن أن تحدث لكل فرد منا، وربما حصلت للكثيرين، إنها شريحة من الحياة، إنها مسرحية واقعية(1). ما هذا الحادث العادي المبتذل؟ زوجان يحتفظان بجثة في بيتهما ويتساءلان: كيف نتخلص منها؟. يمثل ديكور الفصل الأول بيتاً بورجوازياً من الداخل: غرفة متواضعة هي غرفة طعام وصالون ومكتب في آن واحد الرجل، اميديه بشكنيوني، في العقد الرابع، أصلع، أكرش، كاتب فاشل، يمشي بعصبية بحثاً عن الإلهام، يجلس إلى طاولة عمله، يكتب كلمة، يشطبها، ينهض من جديد. أثناء سيره يقطف من إحدى الزوايا فطراً ساماً.. بالطبع. في تلك الأثناء تتعالى على الدرج ثرثرة حمقاء، إنها حارسة البناية والجيران. تظهر مادلين، زوجة اميديه، نحيلة، شرسة، في جلباب الحمام، تلف رأسها بمنشفة، تحمل مكنسة. راحت تشتم اميديه وتزجره واصفة إياه بالتنبل السكير، إنها تشتكي من أن كل شيء يقع على عاتقها: ترتيب البيت، أعمال المطبخ، كسب المال الذي يؤمن لهما الحياة. يحاول اميديه، المسالم، تهدئتها، لكن مادلين نبع لا ينضب من التظلم والشكوى. أثناء هذا الشجار - الخبز اليومي في حياة الأسرة - نعلم أنه منذ حوالي خمس عشرة سنة، تتضخم شيئاً فشيئاً، وتشيخ جثة في الغرفة المجاورة، وأن الفطور تظهر في جميع الزوايا. منذ خمس عشرة سنة يعيش اميديه ومادلين وحيدين في بيتهما، ليس لهما أصدقاء، ولا يخرجان، لا يستقبلان أحداً، لا يفتحان بابهما أبداً.. تشير ساعة الحائط إلى الساعة التاسعة، ترتدي مادلين ثيابها لتذهب إلى عملها، أي إلى الطرف الآخر من غرفة الطعام حيث يوجد جهاز هاتف. بينما ترد على المكالمات الهاتفية تتابع توبيخ اميديه، ثم ترسله إلى السوق: من النافذة يدلي سلة مربوطة بحبل، ثم يرفعها وفيها كيلو دراق، وجبن طازج، ولبن، وعلبتها بسكويت، وخمسين غراماً من الملح الناعم. الوقت ظهراً، أثناء الغداء يُسمع طرق على الباب. فتحا وهما مرعوبان. إنه ساعي البريد يحمل رسالة، لكن اميديه يؤكد للساعي أن هناك ثمة خطأ: إنهما لا ينتظران أية رسائل، كما أنه ليس الرجل الوحيد الذي اسمه اميديه بكشينوني فنصف سكان باريس يحملون هذا الاسم. - هناك خطأ حتماً يا سيدي، فأنا لست اميديه بكشنيوني بل آ - مي - دي - ه بكشينوني ولا أسكن المنزل رقم 29 شارع جنيروبل في المنزل رقم 29 شارع جينيرو.. ألا ترى أن حرف الألف في كلمة أميديه على الغلاف مكتوب بحرف كبير متصل، أما اسمي فيُكتب بحرف كبير روماني. ينصرف الساعي في اللحظة التي يتداعى فيها باب الغرفة تحت وطأة دفع الجثة. في الفصل الثاني تزدحم المنصة بركام أثاث الغرفة، والفطور صارت الآن ضخمة، وعلى طاولات دائرية صغيرة مصفوفة، تتضخم ساقا الجثة وقد خرجتا من الغرفة. تسلّح اميديه بمتر قماشي وقطعة طباشير وراح يقيس، كل ربع ساعة، تضخم الكارثة، ولاحظ أن الجثة تكبر بنسبة سلسلة هندسية. آنذاك أعلنت مادلين ما لديها من شكاوى. تساءل أميديه عن هوية الميت. تعتقد مادلين أن الجثة جثة رجل شاب قتله أميديه بسبب الغيرة: كنت تدّعي أنه عشيقي... وأنا لم أنكر ذلك لكن اميديه لا يتذكر هذه الجريمة ويخيل إليه أن العاشق انصرف قبل لحظة الجريمة.. أليس من المحتمل أن يكون رضيعاً رمته إحدى الجارات ذات يوم ولم تعد أبداً لتأخذه؟ اغتيال؟ وأد؟ الجريمة خطيرة إلا إذا.. - هل تعرفين.. كنت أصطاد السمك في الريف.. سقطت امرأة في الماء وراحت تطلب النجدة، وبما أنني لا أجيد السباحة، والصنارة كانت تشدّ، لم أزعج نفسي وتركتها تغرق.. عدم نجدة المرء عند الخطر، هل هي أقل خطورة من القتل؟ يستمر النقاش. أخيراً خضع اميديه لرغبة مادلين ووعدها بالتخلص من الجثة برميها في نهر السين في الليلة القادمة. يبدأ الانتظار، لكي يخدعا الجيران، تنهمك مادلين في شغل الصوف، ويتمدد اميديه على مقعد مريح، يغلق عينيه قليلاً، ويحلم. خلال ضباب الحلم، يظهر شخصان: اميديه، شاب ممشوق القدّ، ومادلين في ثياب العروس. يغني اميديه الثاني قدوم الربيع، والشمس، والسعادة والحب المجنون، ويحاول أن يحمل معه زوجته الشابة إلى عالمه الباهر. لكن مادلين الثانية ترى، في كابوس مرعب، ضفادع وأفاعي وأطفالاً موتى، تغوص في المستنقع وتشعر بإبر من نار تنغرز في جسدها، تجرحها الأشواك. تصفعها النباتات المتسلقة، فتدفع اميديه عنها: لا تقترب، لا تلمسني، أنت تخزني، تجرحني، أنت تؤؤُوْلمني! ماذا تري ي ي دُ؟ أين تذهب؟ أين تذهب؟.. خوف مادلين أقوى من فرح اميديه. وفي نهاية المشهد يتلاشى عالم اميديه في ذلك الكابوس. كلاهما، دون أن يسمع أحدهما الآخر، يصرخ بكلمات فقدت كل مدلول، إنهما ما وراء حدود اللغة يغرقان في يأس لا يمكن التعبير عنه بدقة. ينتهي الحلم والكابوس. الوقت منتصف الليل. تضع مادلين شُغل الصوف ويبدأ اميديه، رغم تردد ممزوج بالحسرة، بانزال الجثة من النافذة. في الفصل الثالث، نرى اميديه على إحدى الساحات، يجر الجثة باتجاه نهر السين. يلتقي مع جندي سكران، وعاشقين، وصاحب بار في ساحة توركو. شعر بالقلق لكن لم يندهش أحد، بل أن الجندي قدم له يد العون إذ لف الجثة حول اميديه ليسهل حملها. يصل شرطيان، يهرب اميديه، يلحقان به على المنصة وإلى الكواليس. يقف سكان الساحة على نوافذ بيوتهم. فجأة تنبسط الجثة مثل شراع السفينة ويتوارى اميديه من أمام الشرطيين المنذهلين وسط تصفيق المتسكعين، ويعتذر وهو في غاية الارتباك. تهرع مادلين إليه وتعلن سخطها مرة أخرى. - اميديه: أنا مرتبك، اعذروني.. سيداتي، سادتي، أنا أعتذر.. لا تصدقوا.. حقاً أريد أن أعيش.. أريد أن أبقى وقدماي ثابتتان على الأرض.. إنها ضد إرادتي.. لا أريد أن يأخذوني.. أنا مع التطور، وأتمنى أن أكون نافعاً للآخرين.. أنا مع الواقعية الاجتماعية [..]. - مادلين: دعك من ذلك يا اميديه، دعك من ذلك، لن تكون جاداً أبداً! أنت ترفع نفسك لكن منزلتك لا تسمو في اعتباري.