يترجم هذا التعاقب الشعوري - للقلق والنشوة - الشعور بالسقوط، ففردوس الطفولة عالم دائم لا يتغير، تجري الحياة فيه في حاضر مطلق. كان يونسكو يشعر أنه المركز الثابت للأشياء، وذات يوم شعر أن قوة هائلة قذفته إلى المحيط، لقد فرّ العالم منه: أركض وراء الأشياء، أركض مع الأشياء، أسيل(3). الزمن يمضي ومرور الزمن نوع من التقهقر: إنه السقوط، الأعياد تصبح كئيبة، والأفراح تتلاشى عندما يستمتع بها المرء، وكل شيء موسوم بالإثم الخفي الذي لا سبب له. لم يعد العالم الكوكب الذي يتمتع بحضور شامل لا نهائي - بل أصبح متاهة. كل شيء فيها محدود قليل الاتساع: جدار يكشف عن جدار آخر ننطح برؤوسنا وندق عليه بقبضاتنا: عالم جديد، عالم جديد دوماً، عالم دائم، عالم دائم الجدّة، والشباب، هذا هو الفردوس. فالسرعة ليست جهنمية فحسب بل هي الجحيم ذاته، إنها التسارع في السقوط. كان الحاضر موجوداً، وكان هناك الزمن ولم يعد هناك لا حاضر ولا زمن، إنها متوالية هندسية في السقوط تقذفنا إلى العدم(1). هروب الزمن، التقهقر، السقوط: تلك هي علامات الموت، موت العالم، موت الإنسان الذي ينقش على صفحة الوجود التساؤل العظيم: ما جدوى ذلك؟ ما جدوى إذن أن نتألم، ما جدوى الكتابة؟ سيكون باستطاعتنا أن نحتمل أي شيء لو كنا خالدين كما يقول بيرانجيه في مسرحية الماشي في الهواء. لكن الموت في كل مكان: الأمس يموت في اليوم، والذكريات تموت في النيسان، والإنسان يموت مع ذكرياته، يموت من ذكرياته، لا ينتهي المرء من الموت أبداً، إنه مرض لا شفاء منه. لكن هل وسواس الموت دفعٌ له أم رغبة فيه؟ الخوف من الموت عند يونسكو يخفي رغبة غامضة. الموت قفزة في المجهول؛ ربما هدمت تلك الجدران التي ترتد عنها الصورة الملحاحة التي يذكرها في حكايات الأحلام في يومياته: الجدار الذي يفصله عن ذاته، الجدار الذي يقطع الإدراك الضيّق للأفكار الشاملة، الجدار الذي يمثّل حداً بين هنا وهناك(2). يتساءل يونسكو:ماذا يوجد خلف هذه الجدران؟ الفوضى، العدم، أم نسغ القوة، الطاقة الكونية التي نشارك بها ونشترك فيها(3). هل الفردوس الذي وجدناه من جديد، واخترناه، دفعة واحدة؟ يمكن للغواية أن تكون قوية. أين نجد الجواب؟ هل الدين رمز لشيء آخر؟ هل يخفي الدين أشياء أخرى؟ ليس هذا ما أريد قوله، لا أجرؤ على ذلك، لا أملك من الجرأة والإقدام ما يكفي لكي أؤمن(4). كان يونسكو يفكّر كثيراً بشكوكه وتردده: حاولت دائماً أن أؤمن بالله، لكنني لست ساذجاً بما يكفي، ولا ذكياً بما يكفي أيضاً، هناك بعض التصور الميتافيزيائي؛ لكنني لم أهدم الجسور تماماً بيني وبين الله(5). لكن الحقيقة لم توهب أبداً، والأرض الموعودة يجب أن تُغزى.. لقد استلهم يوميات كافكا فوصف مسيرته الروحية في أمثال: في اللحظة التي لم يكن عليّ فيها سوى القيام بخطوة واحدة لأعبر تلك النقطة التي لا عودة بعدها، كنت أتردد، ثم أصاب بدوار، ثم أشعر بحسرة ممزقة عظيمة، إنها نداء العالم أجمع الذي يمتصني: أصوات، أذرعة طرية، الكون كله يغدو طرياً، ألوان لطيفة، ثم موسيقى، ثم هناء فرخاوة، فبوادر غبطة، وقوة طاغية لا توصف تشدني إلى الأسفل [..] واليوم يُخيّل لي أن المسيرة الضرورية هبوط وليست صعوداً كما من قبل. في هذه اللحظة كان يتراءى لي أن علي أن أتخلص من ثياب رصاص لأستطيع الصعود، يُخيّل لي اليوم أن عليّ أن أغوص في أعماق خانقة، وأن اجتازها(1).