الزمن في فتات
اجتياز الأعماق للرد على نداءات القمم، ورفض الطريق المباشر الذي يقضي بالتمسك بالحياة في لحظتها الراهنة. إرادة الحياة الفورية واقتناص الملذات بلهفة، وامتلاك الخيرات، هذه كلها دروب مسدودة، لا يستطيع المرء أن يشفي غليله من خلالها. الحياة الحقيقية في مكان آخر. الحياة الحقيقية تكمن في إدراك شامل للديمومة. هناك في الأعماق، ينبوع بارد، هو نور الطفولة(2). هناك النشوة والألم متلازمان تلازم السمت والنظير، هناك الذكريات كلها: بلدان، قارات، عوالم غرقت بصمت في الهاويات اللانهائية(3). يجب النزول إلى الهاوية، والبحث في العتمة، يجب أن يكون المرء مثل إنسان يدور في الظلام ومعه مصباح لا ينير سوى مساحة صغيرة حوله تسمح له بالتقدم. تنتقل تلك الدائرة الصغيرة ويرجع كل ما عداها إلى أحلك العتمات من جديد. إدراك الحاضر وحده، إدراح لحظة الاستيقاظ هو وحده الذي يضيء(4). الغوص في أعماق الذاكرة ممكن إذا اعتبرنا الماضي هو الحاضر، ويكتسب هذا الغوص في أعماق الذاكرة خاصيّة الكشف إذا ما تجاوز البحث عن الذكريات النوادر والحكايات الصغيرة وتوقّف عند المغزى، عند علامات الوعي واللاوعي، وإذا ما اكتشف المنطق السرّي للحياة. آنذاك يعطي الماضي معناه للحاضر. لتوضيح معنى الحياة، يُعتبر الحلم أحد المفاتيح التي يملكها يونسكو. يبعث الحلم الماضي ويكشف دروب المستقبل. إنه عنصر كشف مزدوج: إنني أعطي للحلم أهمية عظيمة لأنه يعطيني رؤية أكثر دقة وأكثر نفاذاً لنفسي. أن أحلم، يعني أن أفكر، وأن أفكر بطريقة أعمق وأصدق وأصحّ لأنني أكون كما لو انطويت على نفسي. الحلم نوع من التأمل والخشوع والاعتزال.. إنه فكرة في صورة.. أحياناً يمتاز الحلم بطاقة قصوى على الكشف؛ يكون قاسياً عنيفاً؛ يمتاز بوضوح ساطع مُبهر(1) هنالك التفكير الواضح، المرتبط بالكائن الشامل، التفكير الصافي، الأكثر صفاء من حالة اليقظة، غير أن الحلم هو الطريق الملكي لمعرفة الإنسان. إنه يحسب حساب اللاوعي، أو بالأصحّ، يمثّل ما يعتبره يونسكو الصورة الخفية للأشياء. ليس هناك وعي ولا وعي بالمعنى الدقيق للكلمة. في الحلم، أكون واعياً، لكن المقصود نوع آخر من الوعي. في الحلم، إمّا أن أعرف أنني أحلم، وإمّا لا أعرف ذلك، فإذا كنت لا أعرف فهذا يعني على كل حال أن ما يبدو لي هو ما وراء الأشياء؛ أو غورها - أي أنني أرى الأشياء من الداخلفيكون مجال الرؤية مختلفاً(2). رغم ذلك، تهرب الحقيقة منا، ويبدو أنها تنتقل من الصحو إلى الحلم، ومن الحلم إلى حلم الحلم: أحلم أنه قيل لي: لن تستطيع الحصول على مفتاح الألغاز، ولن تستطيع إيجاد الجواب على تساؤلاتك كلها إلا بالحلم. يجب عليك إذن أن تحلم هذا الحلم. أنام إذن في الحلم وأحلم، في الحلم، أنني أحلم هذا الحلم الخالص الكاشف للأسرار، استيقظ في الحلم، أذكر، في الحلم، حلم الحلم؛ فأنا أعرف الآن، ويتملكني فرح صافٍ عظيم. عند الاستيقاظ، الاستيقاظ الحقيقي، أتذكر جيداً أنني حلمت الحلم الكاشف للأسرار لكنني لا أذكر شيئاً عن مضمونه؛ وهكذا يهرب مني، من جديد، الحلم الذي يفسر كل شيء، حلم الحقيقة المطلقة(1). يُقال هناك مستويان من الرقابة: رقابة في حياة اليقظة ترفض الرموز ورقابة في داخل الأحلام لا تسمح لها إلا بكشف جزء مما يمكنها كشفه: مما تريد كشفه، رقابة على الأحلام، هناك لا وعي في اللاوعي(2). ترتكز الأهمية العظمى المعطاة للحلم على تصور أن الزمن لم يعد موجوداً. بالنسبة ليونسكو ليس هناك ماض أو حاضر أو مستقبل، تنفصل وتتحد في آن واحد: لكن هناك ديمومة تجري فيها كل الأزمنة معاً. الحاضر يحتويه الماضي، والماضي حاضر، والمستقبل مرسوم من قبل، إنها بنية مكانية للواقع تعيد التتابع الزمني المشتت: لقد عرف علماء النفس منذ القدم الأحلام التي تنبىء بالمستقبل وتعرض الملامح بوضوح، أما في الغرب فلا أحد يؤمن بها لأن الأحداث، بالنسبة لنا، تجري في الزمن؛ أي أننا نتمتع بتفكير سببي. هناك قبلُ، وبعدُ، والثاني ناتج عن الأول. قبلُ، بعدُ، سببية، زمن. الغربيون لا يفهمون الشرقيين لأن الشرقيين يرون الأشياء في مجموعة من العلاقات المتبادلة، والمعاني! هذه طريقة أخرى في فهم العالم، وكل حقيقة ما هي سوى التفسير الذي يمكن أن نعطيه عن شيء ما، أو عن الأشياء. ولكي نقبل هذه الظواهر التي تبدو لنا شاذة، لا معقولة، يجب علينا إذن وبكل بساطة، أن نستبدل بالتفكير التاريخي، السببي تفكيراً مكانياً إنه تشكل مكاني، وليس زمنياً.(3) منذ ذلك الحين، وعلى هامش السيرة الذاتية، ظهرت أحداث مُعاشّة يوماً بيوم. إن عالماً بإيقاع فكر مكاني تشكل في أعماق نفسه الحياة الحقة. من هنا، لم تعد التعاقبات متعارضة، والتعارضات أخذت تتكامل وتنسجم في حاضر مطلق. الذكريات ترتبط بالمستقبل، وأصبحت الأحلام ورموزها الجزء الواقعي الذي له معنى ومغزى، وتوهّج الليل بالوضوح. الوصول إلى حلم الأحلام، اكتشاف المعنى الأساسي، اجتياز الظلمات، الوصول إلى الكشف، لكن أين الطريق؟ وكيف نفهم؟ ظن يونسكو أن ذلك كله يتم عن طريق رفض المنهج المنطقي، فالمنطق آلية عقلية لا علاقة لها بالحياة. إنها تفتقد الواقع الذي لا تستطيع أن تحسب حسابه، ويمكن أن تصبح تلك الآلية، حسب الظروف، جنوناً وتتصرّف ضد الحياة. الحياة المفككة، الفوضوية ظاهرياً، يسيرها نظام آخر يجب معرفته؛ لذا يجب التخلي عن التفاسير، والتمسك بعلاقات تعتمد على الأحلام باستخدام منهج وصفي غني بالتوريات: معظم الناس، عندما يحاولون التحدث عن أحلامهم فإنهم يترجمونها، يفسرونها، يقولونها، يتدخلون فيها. الحلم حكاية أو موقف يجب أن تعرض بأكثر الأشكال وضوحاً أو أن توصف. على العموم، يجب أن لا نروي الأحلام، يجب أن نحاول وصفها. الحلم ليس كلاماً، إنه صور (1) إنه أسلوب قصصي، إنه طريق التحليل النفسي الذي يطهّر، وينقّي، ويطرد الأرواح الشريرة(2) كما أنه طريق المسرح أيضاً حيث تصبح التجرية المعاشة خلقاً وإبداعاً.