ليست نقطة انطلاق مسرحية الكركدن - نقطة انطلاقها فقط - تجربة انطولوجية، كما رأينا في مسرحية قاتل بلا أجر بل كان حدثاً تاريخياً، هو وصول الايديولوجية النازية إلى رومانيا بعدعام 1933. رفض يونسكو الإيمان بالمذهب الجديد ودخل في صراعات مع أساتذته وأصدقائه، وتحولت مقاومته، شكوكه، عناده، عواطفه، صدماته النفسية مع مرور الزمن إلى قلق دائم. الذكريات المختزنة، الملحاحة كانت تتحول إلى هلوسات، وفي عام 1957 كان موضوع مسرحية الكركدن يعشعش في مخيلته. بناء على طلب جنفياف سيرو، اعتمد يونسكو على فكرة الكركدن في كتابة قصة قصيرة ظهرت في مجلة الآداب الجديدة، شهر أيلول 1957، ثم استخدم يونسكو القصة أساساً للمسرحية. في 29 تشرين الثاني عام 1958 قرأ يونسكو الفصل الثالث في مسرح فيوكولومبييه، خاطب الجمهور قائلاً: المسرحية تُكتب لتُمثّل لا لتُقرأ. لو كنت مكانكم لما حضرت. عُرضت المسرحية لأول مرة في دوسلدورف في 7 تشرين الثاني 1959، وفي فرنسا، قدّمها لوي بارّو على مسرح تياتر دو فرانس في 22 كانون الثاني 1960، وفي انكلترا قدّمها أورسون ويلز على خشبة رويال كورت ثياتر في 28 نيسان 1960، ولعب فيها لورانس أوليفييه دور البطولة. بعد عشر سنوات من الفشل، عرف يونسكو النجاح والمجد. نلتقي في المسرحية مع بيرانجيه من جديد، المصحح في دار نشر إدارية(1). في الفصل الأول، يذهب بيرانجيه إلى موعد مع صديقه جان، في شرفة مقهى، قبيل ظهر يوم الأحد. يصلان إلى الساحة الصغيرة في وقت واحد، كل منهما من اتجاه. بيرانجيه مغضّنُ الثياب، أشعث الشعر، يجرّ قدميه جرّاً، أمّا جان ففي غاية الأناقة. يبدأ الحديث لكن الإرهاق والنعاس الشديد يظهران على بيرانجيه يتثاءب، يشعر بآلام في شعره و ظمأ عظيم. يلقي عليه جان درساً ويوبخه على مسلكه، وهيئته وقميصه المغضن بلا ربطة عنق، ووجهه غير الحليق، وشعره الأشعث.. بينما يتحدث جان يُخرج من جيوبه ربطة عنق، ومشطاً، ومرآة صغيرة، يعقد بيرانجيه الوديع ربطة العنق، ويمشط شعره، ويمد لسانه أمام المرآة.. يغضب جان منه لكن في تلك اللحظة تماماً يمر كركدن فينشر الرعب بين التجار والمتسكعين، لا يهتم بيرانجيه بالأمر لكن جان ينفجر غاضباً: يجب أن نحتج إلى السلطات البلدية! ما الفائدة منها تلك السلطات البلدية؟. يصل رجل يعتمر قبعة قش، هو رجل المنطق، وشيخ، ويجلسان على الطاولة المجاورة. يشرح رجل المنطق آلية القياس: - رجل المنطق: ها هو مثال نموذجي عن القياس، القط له أربع قوائم، لكلْ من ايزيدور وفريكو أربع قوائم، إذن ايزيدور وفريكو قطّان. - الشيخ: كلبي أيضاً له أربع قوائم. - رجل المنطق: إنه قط إذن. يستمر الحديثان (حديث جان وبيرانجيه، وحديث رجل المنطق والشيخ) بشكل متقاطع، ينتقل رجل المنطق والشيخ من القياس إلى الأخلاق، إلى الحساب الذهني وكلها صور من المنطق. جان ينصح بيرانجيه أن يغير مسلكه، أن يكون نظيفاً، أن ينقطع عن شرب الكحول، أن يروح عن نفسه بطريقة ذكية.. لكن عندما اقتنع بيرانجيه وقرر أن يزور المتاحف، ويتردد على المسارح، طلب من جان مرافقته.. يرفض هذا الأخير: سأنام قليلاً بعد الظهر فالقيلولة جزء من برنامجي.. هذا المساء سألتقي مع بعض الأصدقاء في مشرب.. لقد وعدتهم وأنا أحافظ على وعودي. يعبر كركدن جديد وأثناء مروره يسحق قطّ إحدى السيدات. يحزن عليها كل من رآها، لكن الغضب يسيطر على جان فيشتم بيرانجيه وينصرف حانقاً. يتساءل الناس عن عدد الكركدنات وأصلها.. يشارك رجل المنطق في الحديث ويشوش كل شيء. يأسف بيرانجيه لأنه فقد السيطرة على أعصابه واختصم مع جان، يطلب كأساً كبيرة من الكونياك ويقرر أن يستخدم عقله مرة أخرى. يتألف الفصل الثاني من لوحتين، تمثل اللوحة الأولى المكتب الذي يشتغل بيرانجيه فيه. السيد بابيون رئيس المكتب، دودار مجاز في الحقوق يعد بمستقبل باهر، بوتار معلّم ابتدائي محال على التقاعد، ديزي السكرتيرة الحلوة، يتناقشون حول حدث البارحة الذي تحدثت عنه الجرائد. دودار لا يؤيد ولا يعارض، بل يجد المسألة جديرة بالاهتمام والدراسة. لقد شاهدت ديزي الكركدن وطلبت شهادة بيرانجيه الذي وصل إلى أطراف أصابعه لأنه متأخر. يحاول السيد بابيون، وهو المدرك للتسلسل الوظيفي، أن يفضّ النقاش، ثم يذكّر زملاءه بالنظام ويبدأ الجميع العمل. تصل مدام بوف وتعتذر عن غياب زوجها. لقد ذهب إلى الريف وأصيب بنزلة برد. ثم تروي بانفعال أن كركدناً طاردها من البيت إلى المكتب وها هو يدور هناك عند أسفل الدرج الذي تداعى تحت وطأة ثقله. فجأة تطلق مدام بوف صرخة رعب: - مدام بوف: يا إلهي! هل هذا ممكن! - بيرانجيه (إلى مدام بوف): ما بك؟ - مدام بوف: إنه زوجي! بوف، يا حبيبي بوف، ماذا حصل لك؟ - ديزي (إلى مدام بوف): هل أنت متأكدة تماماً؟ - مدام بوف: لقد تعرّفت عليه، لقد تعرّفت عليه (يردّ عليها الكركدن بخوار هائل لكنه حنون). - السيد بابيون: عجباً! سأطرده نهائياً هذه المرّة! لا تصغي مدام بوف إلا لحبها وتندفع إلى قفص السلّم وتقفز على ظهروحيد الأصبع وتغدو أمازونة تحت بصر بيرانجيه وديزي. بما أنه لم يعد هناك ثمة درج تتلفن ديزي إلى رجال الإطفاء كي يحضروا لإنقاذهم، لكن رجال الاطفاء مشغولون جداً فقد وصلتهم طلبات من شتى أنحاء المدينة لإنقاذ الناس من الكركدنات: هذا الصباح كان هناك سبعة كركدنات والآن صار عددها سبعة عشر [...] تمّ الإبلاغ عن اثنين وثلاثين كركدناً. لم يعد هناك مجال للشك في هذه الظاهرة فيقول بوتار بامتعاض إلى دودار: كلاّ ياسيد دودار، أنا لا أنكر الحقيقة الكركدنية، ولم أنكرها من قبل أبداً!”. تمثّل اللوحة الثانية من الفصل الثاني غرفة جان. استغلّ بيرانجيه فرصة إغلاق المكتب وجاء ليعتذر عن سلوكه البارحة. يجد صديقه في السرير، يراوده القلق، وشيئاً فشيئاً يحلّ الرعب محلّ القلق، إذ يتحوّل جان، تحت بصره، إلى كركدن. يصبح تنفّسه عالياً، وصوته أجش، يسمك جلده ويخضرُّ، يشعر جان بارتفاع في درجة الحرارة فيخلع ثيابه ويريد أن يستحمّ في المستنقع وينبت قرن في وسط جبهته. أثناء الحديث يتنكّر جان لمبادئه التي دافع عنها بالأمس: الحضارة باطلة، الإنسانية ادّعاء مضحك، والأخلاق يجب تجاوزها! - جان: الأخلاق! لتتحدث عن الأخلاق، لديّ منها الشيء الكثير. الأخلاق، شيء حلو! يجب أن نتجاوز الأخلاق. -بيرانجيه: وماذا سنضع مكانها؟ - جان: الطبيعة! - بيرانجيه: الطبيعة؟ - جان: للطبيعة قوانينها، الأخلاق ضد الطبيعة. - بيرانجيه: إذا كنتُ قد فهمتُ ما ترمي إليه فأنت تريد أن تستبدل قانون الأخلاق بشريعة الغاب! - جان: سأعيش في الغاب، سأعيش فيه. - بيرانجيه: كلام يقال، لكن في الحقيقة لا أحد... - جان: يجب أن نعيد بناء أسس حياتنا. يجب العودة إلى الطهارة الأولى... في النهاية، يثورجان ويهدد بيرانجيه: سأدوسك... سأدوسك ثم يصبح صياحه خواراً. يهرب بيرانجيه ويطلب المساعدة لكن الجار والجارة وحارس البناية صاروا كركدنات، وها هي قطعان من الحيوانات سميكة الجلد تملأ الشوارع. تدور أحداث الفصل الثالث في غرفة بيرانجيه. بيرانجيه نائم تفترسه الكوابيس. يعبّر عن رأيه إلى دودار الذي جاء لزيارته، ثم يتحدث عن مخاوفه من هذا الوباء وانتقاله بالعدوى، وقلقه من التفكير في الناس المصابين. يحاول دودار طمأنته:أنت لا تواجه أي خطر... ليس لديك الإستعداد لذلك وفي الوقت نفسه يقول دودار إن من الواجب فهم هذه الظاهرة، ومنحها مسألة شرف فكري وأمانة علمية، لكن إدانتها موقف متطرّف وهناك خطر عظيم في إصدار حكم عليها هل من الممكن معرفة أين ينتهي العادي ويبدأ الشاذ. يرى بيرانجيه في هذا التساهل ضعفاً، بل تواطؤاً: لن تلبث حتى تصبح متعاطفاً مع الكركدنات. يحاول بيرانجيه أن يدافع عن النزعة الإنسانية لكنه لايدري كيف يردّ على دودار ويضيع بين حججه ويخلط بين غاليلو وزينون، ويغضب: لستُ متمكنّاً من الفلسفة ولم أقم بدراسات أمّا أنت فإنك تحمل شهادات عليا... وهذا ما يجعلك أكثر طلاقة في الحديث؛ أما أنا فلا أدري بما أجيبك، أنا تنقصني المهارة... لكنني أشعر أنك على خطأ.... إنه رفض عفوي، عاطفي. تحضر ديزي لتعرف الأخبار من بيرانجيه وفي تلك الأثناء لا يتوقف عدد الكركدنات عن الإزدياد، إذ بعد أربع وعشرين ساعة من تحوّل رئيسه، يتحوّل بوتار إلى كركدن: يجب أن نساير عصرنا! تلك كانت آخر كلماته الإنسانية. الكار دينال دوريتيز، مازاران، دوق سان سيمون يتحولون إلى كركدنادت. مخازن كثيرة اُغلقت بسبب التصليحات؛ ومن النافذة يرى جدار مركز الإطفاء يتهدّم وسط غيمة من الغبار وتخرج منه كتيبة من كركدنات تتقدمها فرقة موسيقية، لم يعد دودار قادراً على الصمود رغم جهود بيرانجيه لإبقائه بشراً. بيرانجيه وديزي وحيدان. يصّرح لها بحبه. لقد نسيا العالم الخارجي فترة من الزمن؛ لكن الشر ينتشر. يرنّ الهاتف، المتحدث كركدن. سيطرت الكركدنات على محطة الإذاعة وأعلنت السلطات تأييدها للكركدنات ولم يبق هناك سواهما: بيرانجيه وديزي آخر الكائنات البشرية. جاء دور ديزي وشعرت بقلق عظيم فلم يستطع بيرانجيه تهدئتها. خارت عزيمتها ولا تريد متابعة النضال، وتجديد الإنسانية. لا تريد أن تكون حواء لآدم جديد. أغوتها الكركدنات وصارت ترى في خوارها أناشيد، وراحت تتأمل لعبها! الكركدنات جميلة، إنها تبدو لطيفة... إنها آلهة. يتحدث بيرانجيه عن حبهما فتردّعليه! - ديزي: إنني أشعر بقليل من الخجل من ذاك الذي تدعوه حباً؛ هذا الشعور المريض، هذا الضعف الذي نجده عند الرجل وعند المرأة. هذا لا يُقارن أبداً بالحماسة، بالطاقة الخارقة التي تصدر عن الكائنات المحيطة بنا. - بيرانجيه: الطاقة؟ تريدين طاقة؟ خذي، إليك هذه الطاقة (يصفعها) لقد انتهى كل شيء وتحطّم حبهما: واحسرتاه، خلال دقائق قليلة عشنا خمسة وعشرين عاماً من الحياة الزوجية قال بيرانجيه الحياة المشتركة لم تعد ممكنة كما أكدت ديزي ثم تتصرف لتضيع في ذلك القطيع. تنتهي المسرحية بمونولوج يلقيه بيرانجيه، استدراك مؤثر وساخر معاً. ينادي ديزي بلا جدوى، يسدّ الأبواب والنوافذ لن ينالوني أبداً! يحاول أن يبرر ذاته لكنه لم يفهم ماذا تعني اللغة التي لا يتكلمها أحد، ولا يتعرّف على الصور المعلّقة على الجدار، ولا الصور التي يخرجها من أحد الأدراج... يطمح أن يصبح كركدناً وينظر بقرف إلى جلده الرخو الرقيق وجبهته الخالية من القرون، ويجرّب الخوار دون نجاح. آنذاك، وبينما تنهار الجدران من حواليه، يتناول مسدسه، وفي ارتعاشة مقاومة: ضد العالم أجمع سأدافع عن نفسي! ضد العالم أجمع سأدافع عن نفسي! أنا آخر إنسان وسأبقى كذلك حتى النهاية! لن استسلم!.