استغلّ يونسكو في هذه المسرحية جميع إمكانيات المسرح: التمثيل، الديكورات، الإكسسوارات، الإضاءة. غالباً ما يكون تمثيل الممثلين مستقلاً عن النص. يبدأ الفصل الأول بحركات صامتة بين صاحبة البقالة وربة البيت؛ وما كاد جان يستقر حتى أخرج من جيوبه أدوات الزينة كأنه حاوٍ يُخرج الأرانب من قبعته، وينتهي الفصل الأول باستعراض؛ هذه المشاهد هي التي تعطي الفصل الأول طابعه الضاحك. يبدأ الفصل الثاني بـ لوحة حيّة تمهدّ للنقاش الذي يليها. يبرز هرب بيرانجيه، الذي يلاحقه جان ، غرابة الموقف؛ ومشهد اللوحات والصور في نهاية الفصل الثالث هو أيضاً حركات صامتة تساعد على تطوّر الحدث الدرامي. يبرز تغيّر الديكور التهديد المتعاظم الذي يضغط على بيرانجيه: ساحة عامة، ثم مكان عمله، ثم غرفة صديقه، وأخيراً غرفته هو: الشر يطارد بيرانجيه في أمكنة تزداد صميمية بالتدريج. إضافة إلى ذلك، فإن هذا الديكور يتهدّم، جزئياً، في الفصل الثاني تحت وطأة الكركدن، أمّا في الفصل الثالث فإنه ينهار تماماً تحت ضرباتها. آنذاك يصبح بيرانجيه عاجزاً عن الدفاع. استخدام الإكسسوارات قضية تهمّ المخرج بمقدار ما تهمّ المؤلف. يمكن أن يتخيل استعمال أقنعة تمثّل الكركدنات، كما يمكن تقديم المسخ الجسدي الذي يتعرّض له جان: يذهب إلى الحمّام ويعود عدة مرات وفي كل مرة يكبر القرن على جبهته ويزداد اخضرار بشرته. إمكانات أخرى للإخراج توحي بتحول داخلي بحت: هذا الإحتمال أصعب؛ لكن عندما ينجح هذا التحوّل، خصوصاً الأخلاقي، يغدو الأمر مقلقاً. ومن الغريب أنه عندما لا تُستخدم الإكسسوارات تصبح المسرحية سوداء، وأكثر مأساوية، أمّا في حالة استخدامها، تصبح المسرحية هزلية ويضحك المشاهدون. لقد اختار بارّو التفسير الهزلي لأنه يعتقد أن أشد المسرحيات مأساوية في فرنسا هي المسرحيات الهزلية واستشهد بمسرحيات موليير: طرطوف، كاره البشر، البخيل. مهما كانت طريقة الإخراج فهناك عملية تكاثر. والطريقة هي موضوع المسرحية بالذات كما أنها إحدى الوسائل الدرامية. هناك مطابقة هزلية بين تكاثر الخراتيت وازدياد عدد الرجال الذين اسمهم جان: في اللوحة الثالثة، كل الناس اسمهم جان وكما رأينا كل الناس اسمهم جاك أو روبير أو اميديه. مسرحية ملتزمة. لمسرحية الكركدن مغزى تاريخي قبل كل شيء. تهدف المسرحية إلى وصف انتشار النازية في بلد من البلدان كما كتب يونسكولقد نفّذ جان لوي بارّو استعراض الكركدنات على إيقاع أناشيد ومارشات من استعراضات الجيش النازي. ترسم المسرحية صعود النازية في أوربا اللامبالية أو المتواطئة معها. هنالك المكر والإغراءات التي تسبق استخدام القوة، وردود الفعل المتناقضة الصادرة عن بوتار، الإعجاب العاطفي لدى ديزي، فضول عالم الحشرات عند دودار، رعب بيرانجيه، الواقف وحيداً ضد الجميع، هذه مشاعر تراود الشهود والمرتكبين والضحايا في تلك المجزرة الدامية. الأقوال المأثورة التي يرددها جان عن الإنسان المتفوّق والأخلاق الطبيعية التي يدعو إليها تصدر أصواتاً شبيهة بأصوات الأحذية العسكرية الضخمة وتؤدي إلى إقامة نظام جديد وجهه الآخر ليل وضباب nacht und nebel . لمسرحية الكركدن مغزى أبعد من التاريخ، ففيروس الكركدن لا يظهر فقط بصورة الصليب المعقوف إذ أن يونسكو يتناول هنا دعوة الأم بيبا بالنقد اللاذع. المسرحية هجوم عنيف على الإيديولوجيات التي تخلق الهستريا الجماعية. الكركدن هي المثقفون الإيديولوجيون وأنصاف المثقفين أتباع الموضة الدارجةالذين يبرّرون بطرائق شبه منهجية عقليتهم كتابعين. الكركدنات هي العبيد المولعون بالإخلاص للرئيس، للقائد، للحامي. إنهم بناة الديانات الجديدة وأولئك الذين تسكرهم الخطب، وتعميهم الإستعراضات البراقة الخادعة، الذين يسترون الواقع البغيض بدخان البخور وهتافات التأييد. الكركدّنة هي التعصّب الذي تقع شعوب كاملة دورياً فريسة له. يعالج يونسكو في مسرحية الكركدن مسائل معاصرة بوضوح أكبر مما رأينا في قاتل بلا أجر. عام 1958 بنشأ خلاف بينه وبين كينث تينان من جريدة الأوبزرفر الذي كتب، رغم إعجابه بجرأة وتقنية يونسكو: مسرح السيد يونسكو لاذع، محرّض، لكنه يبقى تسلية هامشية فهل كانت مسرحية الكركدن ردّاً على هذه الانتقادات؟ نعم. دون أدنى شك. لكنها خصوصاً امتداد طبيعي للبحث الخلاّق الذي بدأه يونسكو. الإنسان فرد له وساوسه ومخاوفه الصحيحة، وهو أيضاً كائن ضمن مجتمع، خاضع لتأثيرات الجماعة، منغمس في الأحداث الراهنة. الدوافع البيولوجية، الرغبات، الأحلام، تتلوّن دائماً بلون العصر. إذ بعد جاك وشوبير واميديه ها هو بطل يونسكو يخرج عن نطاق العائلة والزوجين ليواجه مشاكل الحياة الاجتماعية. بأسلوب مختلف يمضي الإلتزام في الكركدن في نفس اتجاه مسرحية ارتورو أوي . يدافع بيرانجيه عن عالم يحترم حقوق الإنسان، عالم مازالت كلمات: حضارة، حرية، صداقة، حبّ، تحتفظ فيه بمعناها، عالم إنساني على وجه العموم. لكن هذه النزعة الإنسانية غير مقنعة، فبيرانجيه يعطي انطباعاً أنه يكرر أفكاراً جاهزة، يرتبك في تقديم براهينه، يخلط بين المذاهب لدرجة يمكن اتهامه بالتشبث بالماضي ورفض التطور؛ بل ربما كان رافضاً للمغامرة الإنسانية. لكن رفض مدلول التاريخية لا يعني... رفضاً كلياً للتاريخ وللتطور. أكثر من ذلك، لا يريد يونسكو من خلال براهين بيرانجيه، أن يقارن بين منهجه الشخصي وبين المناهج التي يهاجمها: إذا كنت أضع ايديولوجية جاهزة مقابل ايديولوجيات أخرى جاهزة، تربك العقل فلا أكون فعلت شيئاً سوى استبدال نظام من الشعارات الكركدنّية بنظام آخر ذي شعارات كركدنية. لهذا السبب فإن المسرحية تعبّر، إضافة للصراع بين الإستبدادية والفردية، عن طريقة في اختبار الذات واختبار العالم. مغزى المسرحية مغزى وجودي، فخلف نزعة بيرانجيه الإنسانية هناك إنسانيته الخاصة، ورفضه لذلك الموقف ناتج عن حدس وغريزة: أنا أشعر أنك مخطيء كما أن رغبته، في خاتمة المسرحية، في أن يصبح كركدناً رغبة غير عقلانية. عاش بيرانجيه الصراع بين غريزة التجمّع وغريزة الحرية: إن العزلة تضغط علي والمجتمع يضغط أيضاً. تظهر مسرحية الكركدن إن ثمة قوى غامضة تكبّل اللاشعور عند كل فرد، وإنه يواجهها بردود أفعال مختلفة. إن نزعة محاكاة الآخرين والحاجة في أن يبقى المرء متميزاً يتقاسمان كل شخص، ويسيطران على الحياة بالتناوب؛ وهكذا يتضح فقدان الحلّ في هذه المسرحية تساءل يونسكو في ملاحظات وملاحظات مضادّة عن نجاح المسرحية! عُرضت مسرحية الكركدن في ألمانيا أكثر من ألف مرة حتى الآن، وعُرضت مئات المرات في أمريكا وفرنسا، وعُرضت مرات كثيرة في انكلترا و إيطاليا وبولونيا واليابان والدول الإسكندرينافية وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وهولندا، الخ... أذهلني نجاح هذه المسرحية. هل يفهمها المشاهدون فهماً صحيحاً؟ هل يرون فيها ظاهرة التضخم المشوّه المخيف؟ صحيح أن المسرحية تتهم الجمهور وتدين نزعات القطيع والغرائز القاتلة لدى الجماعات والجماهير، لكنها توقظ أيضاً لدى المشاهد الميل الفطري إلى الإستقلال. ثم يضيف يونسكو: في الوقت نفسه الذي يكون المشاهدون فيه مؤهلين للتكتل، هل يكونون كلهم أيضاً، وبشكل أساسي، وفي أعماقهم من نزعة فردية، هل يكونون أرواحاً متفرّدة؟