لم يكن يونسكو قد نال الشهرة عام 1955 لكن إخفاقاته لم تتوقف عن التضخم. لم يقابله النقاد المسرحيون باللامبالاة، فغالباً ما خاصموه وهاجموه ونادراً ما أبدوا إعجابهم به. وضعوا اسمه تحت عناوين كاتب العبث و مؤلف طليعي ومن أجله هو شخصياً ومن أجل الآخرين وضّح يونسكو أساليبه وحدّد غاياته: كتب مقالات، وألّف مرتجلة الما أو حرباء الراعي التي قدمها مخوريس جاكومون على ستديو الشانزيليزيه في 20 شباط 1956. عند رفع الستارة، نرى يونسكو في بيته منهمكاً في عمله: بين الكتب والمخطوطات، رأسه على الطاولة، قلمه في الهواء. يشخر يصل بارتولوميوس الأول مرتدياً جبّة تشبه جبّة طبيب موليير. إنه دكتور في علوم المسرح وناقد يمثل العصر فوق العلمي وفوق الشعبي لقد جاء بحثا عن آخر مسرحيات يونسكو لتقدمها فرقة من الممثلين الشباب تعرض أعمالها في صالة صغيرة - خمسة وعشرون مشاهداً جلوساً وأربعة وقوفاً - لجمهور شعبي من النخبة. فرح يونسكو فرحاً عظيماً لكن عندما طلب بارتولوميوس قراءة المسرحية شرح له يونسكو أنها انتهت دون أن يكتبها وأن موضوعها لا يمكن روايته، وأن الحوار، رغم أنه لم يكتب تماماً، بحاجة إلى بعض الاختصار فالقراءة سابقة لأوانها لكن إذا انتظر عدة أيام.. لم تنطلِ هذه الإيضاحات الغامضة على بارتولوميوس الأول. يصل بعد ذلك بارتولوميوس الثاني وبارتولوميوس الثالث، وهما دكتوران في علوم الديكور والملابس وسيكولوجية المناظر.. يدور الحوار حول جوهر المسرح ورسالة الكاتب المسرحي. لم يتفق المتحاورون لكن بما أن كل واحد منهم راح يتحدث دون أن يصغي للآخرين لم يبق للحوار أية قيمة: اعتبروا أن على الكاتب المسرحي أن يؤكد ابتعاده عن الدائرة الفاسدة(1) التي يحاول أن يسجن نفسه فيها لكي يحدد مكانه على أنه موجود داخل الشيء وهو خارج الشيء: etre - dans - le - coup - hors - du - coup” والعكس بالعكس ، من الناحية العلمية والجدلية، كما نعلم. وبالنتيجة فإن سريع الزوال هو وحده الذي يستمر، ومفهوم العالمية هو نوع من الهرطقة التي ينشرها بعض المؤلفين الرديئين يجب إذن أن تخضع قراءات يونسكو للمراقبة: - يونسكو: جعلوني أقرأ مؤلفات اسخيلوس وسوفوكليس ويوروبيدس.. - بارتولوميوس الأول: أشياء بالية، بالية، لقد انتهى ذلك كله.. إنه لا يساوي شيئاً. - يونسكو: ثم.. ثم.. قرأت شكسبير! - بارتولوميوس الثالث: هذا ليس مؤلفاً فرنسياً، ربما كان الآخرون فرنسيين أما هذا فهو روسي. - بارتولوميوس الأول (إلى الثاني): إننا لا نلومه لأنه أجنبي. - بارتولوميوس الثالث: أما أنا فألومه على ذلك، ويقول على انفراد: أرجح أنه بولوني(1). غامر يونسكو إذ ذكر موليير الذي لم ينل بعد تقديس مسرح البولفار، كما أن بارتو لوميوس الثالث تذكره فجأة: لقد استلهم مادة مسرحه من الأدباء الأجانب، من الطليان. بدأ الدكاترة الثلاثة في الحال تعليم يونسكو وتثقيفه. علّموه أن المسرح هو إظهار المسرحة وأن المسرح يملك جوهراً مسرحياً ووجودياً من خلال تقديم المسرحيات، وأن المسرحية تُكتب لتُمثّل، يمثّلها ممثلون، في صالة تمثيل، على منصة أمام جمهور.. هذه الحقائق الواضحة سمحت للدكاترة الثلاثة أن يحددوا بعدئذ دور المسرح في العصر العلمي: ستكون حصة دراسية في المساء - إجبارية - درس في الأشياء - والفتيات اللاتي يرشدن المتفرجين إلى أماكنهم سيكنّ الموجهات أو المعيدات(2)، سوف يشرفن على إعادة البروفات سيكون المدير موجّهاً عاماً، وكل شاهد سيرى المسرحية نفسها عدة مرات - مركّزاً اهتمامه كل مرة على مشهد مختلف - من وجهة نظر مختلفة (لأن العمل الأدبي لغة جمعية(3) (تدّل على الجميع) - سوف توضح علامات للمشاهدين - سينالون مكافأة وعقوبة - وأمّا التنابلة منهم سيأخذون دروساً في الإجازات وأثناء مهرجانات الصيف. بعد النظرية يأتي التطبيق: يرجع الدكاترة الثلاثة إلى بحث البروفسور بيرتولوس ويؤرخون للأدوات المسرحية - أي غرفة يونسكو - ينزعون الصفة الحقيقية عما هو حقيقي (بوضع لافتات في كل مكان تقريباً) ويوجزون في الحركة المسرحية، ويصلحون مظهر يونسكو لأن الثياب هي تفخيم، وتقويم، وتخريم للرجل العادي. أخيراً يبدأون عملية الخلق المسرحي بوساطة تجهيزات مناسبة: يضعون على رأس يونسكو طاقية على شكل رأس حمار ثم يبدأ الأربعة بالنهيق: هي.. هان.. اكتبْ! هي.. هان.. اكتبْ بقوة! .. هي.. هان.. اكتب بطريقة علمية! هي.. هان... تصل ماري، الجارة التي تهتم بغرفة يونسكو فتخلّصة من زيّه المضحك وتنزع اللافتات وتطرد الدكاترة، بضربات من مكنستها، الذين راحوا يتعاركون حول فن الملابس وعلم الملابس. لكن يونسكو وقد انتقلت إليه العدوى، يندفع في إلقاء خطاب: يعرض تصوّره للمسرح، والنقد، والإبداع، والعلاقات بين بنية النفس ونظام اللغة.. تعلو اللهجة ويصبح متحذلقاً عدوانياً. آنذاك تتناول ماري جبة أحد الدكاترة وتضعها على كتفي يونسكو: هل بدأت تأخذ نفسك مأخذ الجد يا يونسكو؟