ما العمل حتى يصبح الأدب استكشافاً مثيراً للاهتمام؟ سأل بيرانجيه في مسرحية الماشي في الهواء. كذلك كان يونسكو يسأل نفسه عندما يجعل شخصياته تتكلم: شوبير، نيكولا دو، بيرانجيه، الصحفي، وهكذا تساءل أيضاً عندما قدّم نفسه على المسرح في مسرحية الما. ولقد أجاب عن ذلك مسرحه كله عندما كان يخترع الأشكال التي عرض من خلالها بديهيات رؤيته للعالم. الكتابة هي التفكير في الكلمات، كما قال باشولار أما قضية الكتابة فيجب أن تعطي الأشياء مدلولات جديدة. لقد عالج سارتر وكامو، وهما الوفيّان لعلم الجمال التقليدي، مسألة اللامعقول في مسرحياتهما أو قصصهما بواسطة كلام عقلاني وأساطير تاريخية. هناك إذن تفاوت بين الأشكال وبين رؤية العالم، بين الكلمة والمدلول، لكنهما كانا يعرفان مسبقاً مايريدان أن يقولا. أمّا عند يونسكو فعلى العكس إذ أن الأشكال الجديدة هي التي تخترع الدلالة والمغزى. اللا واقعية موجودة في قصص الأحلام والتمثيل النفساني، وتنبثق أساطير جديدة (كركدنات وفطور)، من الهلوسات اللا واعية كما أن تفكك الصور المسرحية يرمز إلى تفكك العالم وكارثة الكلام تجمّد تصدع القيم في جثث من الكلمات؛ فالأم بيبا وتاراباس نبيّان كاذبان لعالم مجنون. إن لا معقولية العالم هي بداهة حيّة. هذه الأشكال الجديدة مقصودة ومدبّرة. إنها ترسّخ عالماً مسرحياً ينقل الواقع ويعطيه مدلولاً، فتحوّلات الشرطي إلى أب أو طبيب، ومسخ الناس إلى كركدنات أو أوزّ، الأشخاص التافهون الكبار أكثر من الحالة الطبيعية،والمملكة التي تتضاءل حتى تصبح حفنة من رمال، والجثة التي تتضخم... هذه الصور كلها لا قيمة لها إلاّ لأنّها ذات مغزى. إنها أمور متفق عليها. بين المؤلف والجمهور. لم تأتِ هذه الاتفاقات دفعة واحدة ومن هنا نشأت المقاومة والعداوة ليونسكو واستمرتا حوالي عشر سنوات. لكي تنال هذه الاتفاقات - وهي كل قوانين الفن المسرحي عند يونسكو- القبول اضطر المؤلف لإدخال بعض العلاقات الحقيقية، لكنها لاتحمل أي معنى، وهذه أيضاً اتفاقات بين المؤلف والجمهور. هكذا يقدّم يونسكو عناصر تعيد الجمهور إلى الاستخدامات والعادات والتصرّفات المألوفة: قضاء سهرة عائلية، كيفية طلب الكونياك في كأس كبيرة، أحاديث المتفرجين في المسرح، وفي الوقت نفسه، يقطع القصة بتلميحات مباشرة إلى تمثيل الممثلين أو إلى زمن العرض أوإلى مسؤولي الآلات والاكسسوارات ليؤكد أن مغزى المسرحية ليس في هذه العناصر الواقعية، وليؤكد أنه لا يكتب مسرحيات طبيعية. تغيرات ذات مغزى وتأثيرات الواقع: هذا النظام المزدوج من الاتفاقات يحدّد تقنيّة وبنية المسرح. هذا النظام المزدوج يدعم ويكشف رؤية المؤلف للعالم، ولذا فإن الكاتب الأصيل يفكّر بالأشكال والصيغ ويطرحها من جديد على بساط البحث. لا يمكن أن يتمّ تأكيد القيم الجديدة إلاّ بواسطة فن يتمّ اختراعه من جديد، وتكمن عظمة يونسكو في إدراك ذلك وتطبيقه.