من الآن فصاعداً، تتحد سيرة يونسكو الذاتية - تقريباً - مع سيرة مسرحه. لقد صدمت مسرحياته الأولى عادات وذوق الجمهور. استفزاز مقصود تؤكده الملاحظات على هامش المسرحية.. هذه الفضيحة، وهذا التعدّي على رفاهية المشاهدين الفكرية تؤكدان الرغبة في تدمير المسرح الاستهلاكي وليس الرغبة في الإساءة لجمهوره. لم يلتبس الأمر على الجمهور أبداً. هناك نقّاد أعلنوا عداءهم لذلك المسرح مثل جان غوتييه وروبير كمب، أما جاك لومارشان فإنه يروي بطريقة ساخرة العروض الأولى لمسرحية المغنية الصلعاء: سأذكر دائماً بمتعة، الطريقة التي قوبلت فيها المغنية الصلعاء عندما عُرضت في أيار 1950 على مسرح نوكتامبول. همسات الضيق، النقمة العفوية، والاستهزاء. لقد أمضيت أمسية مسليّة فريدة لم يزدها تذمّر قسم من وجهاء الحاضرين، وضحكاتهم الساخرة إلا متعة وظرافة(1). بعد مسرحية المغنية الصلعاء كانت مسرحيات: الدرس، الكراسي، ضحايا الواجب، عدواناً مشابهاً على الجمهور، لم تلق من النجاح أكثر مما لقيت المغنية الصلعاء: هناك أناس يربكهم ذكاؤهم، يشعرون به في داخلهم مثل ثعلب صغير [..] دُعي الوجهاء لحضور مسرحية الدرس. جاؤوا حاملين ثعلباً في جيوبهم، لقد بيّن لهم ثعلبهم - لقد أدرك أخيراً - أنه منذ اللحظة التي تُسمّى فيها مسرحية لأوجين يونسكو باسم الدرس فذلك يعني أن موضوعها يمكن أن يدور عن أي شيء إلاّ التعليم [..] حول أي شيء تدور أحداث المسرحية؟ كان الثعلب يتساءل عند الخروج من المسرح - حسناً، إنها تدور حول الدرس، كما اضطر الوجهاء للاعتراف: وهذا لم يخفف شيئاً من ضيقهم [..] الكراسي، ثم ضحايا الواجب، طرحتا كل شيء للنقاش من جديد. هناك كراسي حقيقية في مسرحية الكراسي، لكن ليس هناك رجال إطفاء احترقوا أحياء في مسرحية ضحايا الواجب(2). هذا العداء بين الكاتب والجمهور لم يكن سمة خاصة بيونسكو، ففي تلك الفترة، في مسارح الأقبية في الحي اللاتيني، وفي المسارح التجريبية في المقاطعات، كانت فرق من الشباب تقدم مسرحيات لكتّاب جدد أوغير مشهورين مثل: أوديبرتي، جينيه، أداموف، شحادة، فوتييه، بيكت، بريخت.. لقد جدّد هؤلاء الكتّاب الشباب أشكال التعبير المسرحي، وهاجموا مسارح التسلية، وخلقوا ذوقاً جديداً. لقد تعرّضوا للقطيعة والسخرية عام 1950 كما أن مسرحياتهم عُرضت تحت صيحات الاستنكار والاستهزاء، لكنهم فرضوا وجودهم في أقل من عشر سنين، وأصبحوا الآن كلاسيكيين بلا جدال، ولهم جمهورهم الوديع المسالم المحترم، المرتبك قليلاً أمام لوحات وأقوال ومشاهد تنتزعه من نفسه بواسطة الضحك والحلم. هذا التطور، الذي رأيناه لدى الجمهور والنقاد، انتقل من اللامبالاة إلى العداوة ومن صغير الاستنكار إلى تضعيف الاستحسان هذا التطور، يتحدث عنه يونسكو بسخرية في إحدى رسائله عام 1957: منذ سبع سنوات عُرضت أولى مسرحياتي في باريس، لقد كانت فشلاً بسيطاً أو فضيحة محدودة. تضاءل الفشل في مسرحيتي الثانية وخفّت الفضيحة وفي عام 1952، مع مسرحية الكراسي، بدأ النجاح يزداد. كان ثمانية أشخاص غاضبين يحضرون المسرحية كل ليلة، لكن الضجة التي أحدثتها هذه المسرحية وصلت إلى أسماع عدد كبير في باريس، وفرنسا، وعبرت الحدود الألمانية. وفي مسرحياتي الثالثة والرابعة والخامسة.. والثامنة كان الفشل يتضخم، وينتقل بخطى عملاقة فعبرت الاحتجاجات بحر المانش واجتازت جبال البرينه، وسُمعت في ألمانيا، ووصلت إلى إسبانيا وإيطاليا وركبت السفينة إلى انكلترا. هل تتحول الكمية إلى نوعية؟ أعتقد ذلك إذ أن عشر حالات من الفشل أصبحت الآن نجاحاً؛ وإذا ما استمر الفشل فذلك يعني النجاح حقاً(1). كانت الفضيحة تكبر وتنتشر، إذ بعد الصالات الصغيرة مثل نوكتامبول، تياتر دو بوش - مونبارناس (الدرس 1951) نوفولانكري (الكراسي 1952) تياتر دوكارتييه لاتان (ضحايا الواجب 1953) تياتر دوبابيلون (اميديه 1954) لاهوشيت (جاك 1955)، صارت مسرحيات يونسكو تُعرض على ستديو شانزلزيه (مسرحية الما 1956) تياتر الاليانس فرانسيز (المستأجر الجديد 1957 على تياتر ريكامييه (قاتل بلا أجر 1959). لقد أعيد عرض هذه المسرحيات وتُرجمت، وقُدّمت في انكلترا وإيطاليا وفنلندا، وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية واسبانيا ورومانيا.. كما أن بعضها - المستأجر الجديد، مشهد رباعي، الكركدن - عُرض في الخارج قبل أن يُعرض في فرنسا. أصبح يونسكو كاتباً مسرحياً ذا شهرة عالمية. مسرحيات قصيرة، اسكتشات، مسرحيات متعددة الفصول، راحت تتوالى. كان يونسكو يطرح كل مرّة مسائل مختلفة ويكتشف مواضيع جديدة، وينوّع أساليبه، وفي الوقت نفسه كان يكتب قصصاً قصيرة يستلهمها من أحلامه: ضحية الواجب (1952) الراية (دون تاريخ) صورة الكولونيل (1955) الطين (1956) الكركدن (1957) الماشي في الهواء (1961)(1). لقد استخدمت تلك القصص، عدا الطين، أرضية لمسرحيات. والمقارنة بين هذه القصص القصيرة وما يقابلها على المسرح تسمح لنا بتحليل ومتابعة آلية الابداع لدى يونسكو، كما تسمح بدراسة تحولات التجربة الحياتية، ومسرحة الصور التي يراها في الحلم وتشكل النزعة الرمزية لديه.