تشكل سنوات 1958-1962 في إبداع يونسكو فترة تأمّل وسنوات أزمة. أسلوب الكركدنات ونجاحها، والتخصيص شبه الرسمي لـ صالة تتلقّى معونة أدّى إلى تبديل في التحالفات بين النقاد. بعض الذين انتقصوا من قيمة أدب يونسكو في الماضي راحوا يهنئونه ويفرحون لنجاحاته مثلما تفرح الأسرة بعودة الابن الضال؛ وبالمقابل فالنقاد الذين ساندوه منذ الساعة الأولى أدانوا مسرحية الكركدن باسم المغنية الصلعاء. شهد يونسكو كثرة التفاسير والإنتقادات، وسجّل تناقضاتها، ووضع النقاد وجهاً لوجه مع بعضهم ولم يؤيد أحداً منهم. استرجع يونسكو في محاضرة ألقاها في السوربون، في شهر آذار 1960، ونشرها في كتاب ملاحظات وملاحظات مضادة تحت عنوان: كلام حول كلام الآخرين، استرجع على مدى سنوات، شروحات أكاديمي من نزعة إنسانية وانطباعية.زمن الطبيعي أن يكون الناقد الانطباعي أقلّ انسجاماً من غيره. فيما يتعلّق بمسرحيتي الأولى المغنية الصلعاء، قال ذلك الناقد، منذ سنوات عديدة، وبمناسبة تقديمها، إنها لاتستحق أكثر من هزّ الأكتاف، وفيما بعد، وبعد أن شاهد مسرحية أخرى الكراسي على ستديو الشانزيلزيه، كتب أن المسرحية تذكّره بقصة لأناتول فرانس لكن دون خيال ولا إبداع ولا فكر، واختتم مقالته قائلاً إنه لايفهم كيف أن المؤلف الغني بالغرابة والظرف، الذي كتب المغنية الصلعاء الناجحة، يقدم على كتابة مثل هذه المسرحية الهزيلة الباهتة.تابع يونسكو محاضرته بعملية مونتاج للإنتقادات المتناقضة حول مسرحية الكركدن، وفي تلك المحاضرة نجد كل القريحة التي رأيناها في مسرحية الما. حدّد يونسكو فنّه المسرحي في مجموعة مقالات: تجربة المسرح (1958) مقال عن الطليعة (1959) المؤلف ومشاكله (1958) كما أجرى مقابلات وألقى محاضرات وكتب مقدّمات... هذا جهد يهدف إلى توضيح الأمور لصاحبها أكثر من كونه طريقة يحدّد المرء فيها موقفه من الآخرين؛ وفي عام 1962 جمع يونسكو هذه المقالات النقدية في كتاب ملاحظات وملاحظات مضادة، كما جمع قصصه القصيرة في كتاب صورة الكولونيل. يبدو أن التأمّل دفع يونسكو للعودة إلى المسرح الخالص. كتب اسكتشات مبنيّة على بعض الأساليب أو الآليات التي كانت تخدم المغزى في المسرحيات الناجحة لكنها هنا للمتعة فقط. في اسكتش مشهد رباعي الذي كُتب عام 1956 وقُدّم في السنة نفسها في مهرجان سبوليت، يتنافس ثلاثة رجال: ديبون، دوران، مارتان للفوز بامرأة.. يطلبون منها أن تختار وينتهي المشهد بعراك شامل تفقد السيدة خلاله قبعتها ومحفظتها وثيابها وذراعيها ونهديها وإحدى ساقيها... إن اسكتش تعلّم المشي عام 1960 ، هو الأساس لباليه للإبهار. تحاول ممرضة أن تعلم شاباً مشلولاً المشي خطوة خطوة ثم يتحوّل البطلان إلى راقصين. أثناء الحركات الباهرة يرتفع الشاب عن الأرض ويرتقي سلماً من نور. قدّمت هذه البالية فرقة فرانسواز ودومينيك على رقصات من تصميم ديريك مندل وموسيقى ايفان ماليك. *أما الغضب (1961) فهو سيناريو فيلم يعالج فكرة العنف. اللقطات الأولى -وهي سلسلة من المشاهد المؤثرة- تعرض جميع أشكال الطيبة البناءة والانسجام الكوني، لكن ذبابة تسقط في صحن حساء تسبب شجاراً عائلياً، وشجارات عائلية، وحريقاً، وعصياناً، وثورة وحروباً. آنذاك تعلن مذيعة التلفزيون الساحرة بابتسامة حلوة: “سيداتي، سادتي، بعد عدة لحظات ستحلّ نهاية العالم وتكون الصورة الأخيرة صورة فطر ذرّي. أما تخريف ثنائي التي نشرت في آذار 1962 وعُرضت في نيسان على مسرح ستديو الشانزيليزيه ولعب الدورين الأساسيين فيها انطوان بورمي وتسيلا شيلتون فإنها خصام عائلي حول تماثل أو عدم تماثل السلحفاة والحلزون؛ وهل من المناسب فتح النافذة أم إغلاقها، الخروج من البيت أم البقاء فيه... الخلفية الصوتية لهذا الخصام أصوات صدى مضخّمة لضوضاء تمّرد، وهدير رشاشات وانفجار قنابل، وصراخ جرحى، وحشرجة قتلى. أخيراً تنزل، من السقف الذي خرقته القنابل، وعلى أطراف حبال، أجساد بلا رؤوس ورؤوس بلا أجساد لمساجين نُفّذ فيهم حكم الإعدام. الثغرة وهي مسرحية كتبت عام 1962 وقدّمها المركز المسرحي في الجنوب الغربي عام 1965، ثم أعيد تقديمها في السنة التالية على مسرح تياتر دوفرانس. عند رفع الستارة نرى امرأة باكية في ثياب النوم تستقبل صديقاً يرتدي ملابس سوداء: - المرأة: هيّا يا صديقي العزيز، أخبرني بسرعة. - الصديق: لاأدري كيف أعلن لك ذلك . - المرأة : لقد فهمت. - الصديق: كنت أعرف النبأ منذ مساء البارحة، لم أرغب أن أخبرك بالهاتف لكنني لم أستطع الانتظار أكثر، اعذريني لأنني جعلتك تغادرين سريرك لأخبرك مثل هذا النبأ. - المرأة: لم يستطع التخلّص من ورطته! يا للمصيبة! حتى اللحظة الأخيرة كنا نتعلّق بالأمل. السيد -وهو مدرّس في الجامعة، دكتور بمرتبة الشرف من جامعة امستردام، ومن الكليّات السريّة لدوقية اللكسمبورغ العظمى، رئيس لجنة التحكيم التي تعطي شهادة الاستاذية، حائز على جائزة نوبل ثلاث مرات، الأكاديمي... السيد رسب منذ فترة قصيرة في شهادة الدراسة الثانوية. اغتاظ السيد جداً وقرر أن يطلب إلغاء الإمتحان، يخابر رئيس الدولة وهو من رفاقه. - الاكاديمي: [...] آلو! الرئاسة... الرئاسة... صباح الخير ياآنسة، أريد أن أتحدث مع الرئيس. معه شخصياً... معه بالذات... آلو! جول؟ هذا أنا... كيف؟...كيف؟ لكن ما هذا الكلام ياصديقي العزيز... لكن، اسمعني... آلو... - الزوجة: أهذا هو؟ - الاكاديمي: (للزوجة) اخرسي (في الهاتف) أنت تمزح ياصديقي العزيز... أنت لا تمزح؟... (يضع السماعة). - الصديق: ماذا قال؟ - الاكاديمي: قال... قال.. لا أريد أن أتحدث معك بعد الآن. لقد منعتني أمي من مخالطة المتخلفين في الصف، ثم سكّر الخط؟ أخيراً، في هذه الفترة نشرت البيضة المسلوقة في آذار 1963 ضمن دفاتر -نيو- بارّو. كتب يونسكو عنها نصيّن : الأول عبارة عن سيناريو على طريقة الأفلام الدعائية والآخر مونولوج قصير هو المحصّلة الساخرة لتحضير بيضة مسلوقة. لكن عام 1962 هو عام مسرحيتي الماشي في الهواء و الملك يموت. الماشي في الهواء تعرض مسرحية الماشي في الهواء التي كُتبت صيف 1962، بيرانجيه على المسرح من جديد. لقد صار بيرانجيه كاتباً مسرحياً، له زوجة ، جوزفين، وابنة، مارتا، وهو ذاته اسمه هريير، أما بيرانجيه فهو لقبه، تجري الأحداث في انكلترا، انكلترا نموذجيه حقيقية أكثر مما هي طبيعية، في مقاطعة جلوسستر، ذات يوم أحد. يصوّر الديكور بيتاً ريفياً جميلاً وسط مرج يشرف على الوادي. يتنزّه الانكليز في مجموعات عائلية. لقد هرب بيرانجيه من فرنسا وجاء ليستريح وربما ليكتب. يصل صحفي فيعترف له بيرانجيه بيأسه: يشعر أنه غير قادر على الكتابة ولم يعد يعرف إلى أين ينتهي الأدب، فكل ما يمكن أن يقال قد قيل ومع ذلك في الشيء الأساسي لم يُقل بعد. يلي ذلك مشهد من عالم الأحلام إذ ترى جوزفين والدها الذي قُتل في الحرب يعود إلى الحياة من جديد، وتدرك أن الموت خسارة لا تعّوض. ترمي إحدى الطائرات الألمانية المتخلّفة عن الحرب الأخيرة قنابلها وتدّمر البيت الريفي الجميل. يخرج بيرانجيه سليماً من بين الأنقاض ليسمع جوزفين تؤنبه على اهماله وكسله: كان بامكانك أن تشتري بيتاً أكثر متانة بدلاً من هذا الكوخ الكرتوني الذي انهار عند أول قذيفة [...] لم تكن تنتظر حجّة أفضل لتنقطع عن الكتابة. تتحدث جوزفين بعد ذلك عن الحلم الذي يقض مضجعها فيشرح لها بيرانجيه قيمة الأحلام والمنعطفات السريّة الحسيّة التي تتكشف فيها. لو كنا نعيش دائماً في حالة الوعي الثاقب الذي نكون فيه في الحلم لما استطعنا الإستمرار في الحياة. ثم تُبعث الحياة في المشهد والديكور فها هو بيرانجيه وجوزفين ومارتا يتنزهون ويتأملون المنظر الجميل: السماء الزرقاء، النور، النهر الفضي، الذي تمخره الزوارق الصغيرة، التلفريك الأحمر المنساب على حبله... أما مجموعات الإنكليز فإنها تتحدث عن الحياة اليومية وعن بؤسها. تولّف نتف الأحاديث المتناثرة فلسفة في الحياة والموت وتمزج الحنين مع الحسرات، يهيمن على ذلك كله حكمة تدعو إلى الخضوع والإستسلام. أثناء هذا المشهد يظهر مرات عديدة القادم من ما وراء العالم Antimonde .يشرح بيرانجيه أن ذلك القادم يعيش في الناحية الأخرى من ذلك الجدار اللامرئي المعتم الذي يجتازه المرء دون أن يدرك ذلك. لا تؤمن جوزفين، وهي المتشككة المرتابة، بالظواهر الخارقة: هؤلاء القادمون ماهم سوى صور أوجدتها تخيّلات الرياح لكن يظهر فجأة الجسر الفضي الذي يربط بين طرفي الهاوية، مكللاً بالنور وسط منظر يزهو بالبهاء. في غمرة الفرح، يكتشف بيرانجيه من جديد قوى منسيّة. أمّا وقد انتشى باليقين، ها هو يتوهج ويرتفع فوق الأرض وسط دهشة المتنزهين. انبهرت مارتا ومعها الولد الإنكليزي الصغير، اغتاظت جوزفين وخافت الفضيحة، أمّا جون بول فقد رأي في الحادثة خطراً على صناعة الطائرات، بينما يؤكد بيرانجيه أن من الطبيعي أن يطير الإنسان عندما يكون سعيداً، أما شقاء الإنسان فهو في نسيان هذه القوّة: - بيرانجيه: ماذا سيقول الناس إذا نسي المرء السباحة والمشي والوقوف والجلوس؟ - جون بول: الجلوس يكفي لتحقيق سعادتي، أحب الوقوف أيضاً، أو النوم منبطحاً لا يغطّيني سوى إليتي. فجأة يدق بيرانجيه كعبه بالأرض ثم يطير ويختفي. يُظلم المنظر وتخترقه بروق دامية. تشعر جوزفين، وقد بقيت وحيدة بالخوف، وتفترسها الكوابيس. ثم يستعيد الديكور إضاءته المألوفة، ويعود بيرانجيه، مرهقاً، لا يسمع التصفيق الذي قوبل به، ولا يتناول الأزهار التي تقدّمها له بنت صغيرة؛ فنظراته لا زالت تعبّر عن صور الرعب التي رآها في ماوراء العالم؛ وعلى سؤال ماذا رأيت ياسيدي في الناحية الأخرى؟.. ماذا شاهدت؟ يجيب: رأيت... رأيت أوزات... (وزات الأم بيبا، دون شك). يصف أرتال المحكومين بالإعدام على المقصلة، والجنادب العملاقة، ورؤساء الملائكة المخلوعين، والمعذبين... إنه يوم القيامة، لكن المستمعين يجدونه خالياً من أية أصالة وينصرفون واحداً بعد آخر ولا يبقى سوى جوزفين ومارتا، ويتابع بيرانجيه رؤاه، يصف، يروي، بينما تهدر موسيقى جوّالة مفرحة بشكل حزين، وتقرقع المتفجرات كأنه الرابع عشر من تموز في انكلترا، هاويات لا قرار لها، إلقاء القنابل، إلقاء القنابل وهاويات بلا قرار تنفتح على سهول قاحلة، مُدَّمرة منذ زمن بعيد [...] ثم، يأتي الجليد بعد النار اللانهائية، وتأتي النار بعد الجليد، صحارى من الجليد، صحارى من النار تهجم على بعضها وتأتي نحونا... تأتي نحونا.