تصف المسرحية فترة الإحتضار أو بالأصحّ مراحل التنازل والاستسلام إذ أن الاحتضار هو معركة ضد الموت، أما في المسرحية فليس هناك من صراع بل قبول بالقدر. يجب أن يموت بيرانجيه، وعلامات الموت لاتخدع. موته، إذن، ليس مأساوياً؛ لكنه محزن. موت الملك تمثيلية جميع مراحلها معروفة مسبقاً وتلتزم بالزمن المحدد: هذا التراجع وهذا اللفّ والدوران... كان ذلك متوقعاً، وهو جزء من البرنامج كما قالت مرغريت.. كانت المسرحية تحمل في الأصل عنوان الاحتفال أو الشعائر. لا تنقسم المسرحية إلى فصول بل هي حركة متطورة متناغمة مع المراحل المتتالية من القلق إلى التمرّد إلى الخضوع. تستغرق هذه الشعائر ساعتين، ولكي يؤكد هذه الاستمرارية فإن روبير بوستيك الذي قدّم المسرحية في بروكسل تخيّل استراحة غير متوقعة: تأبط الحارس حربته وأوقف الممثلين وهم يؤدون أدوارهم. اجتاز المنصّة وأعلن للجمهور: سيداتي، سادتي، استراحة ربع ساعة وبعد الاستراحة، ارتفعت الستارة عن الممثلين وهم جامدون في مواقفهم وحركاتهم التي كان الحارس قد أوقفهم فيها. يشكّل هذا التطوّر قضية سيكولوجية دقيقة. قبل وصول الملك، كانت الشخصيات الأخرى تحدّد علامات الموت وتستعدّ لتأدية الشعائر . كان بيرانجيه في البداية أعمى وأصمّ. إنه يتهكّم، ثم ترافقت عودة الوعي بالغضب والتمرّد، ثم صار اليأس المرحلة الأولى من الإذعان، ويشير الحنين إلى بدء مرحلة الصفاء والصحوة: آنذاك صار الحديث عن الحياة بصيغة الماضي، وأخيراً حلّ النسيان، والدخول إلى عالم الموت. صوّر يونسكو الإحساس بالموت من خلال انقلاب حادّ في المنظور ولم يصوّر مشهد الموت؛ فهو لم يقدّم لنا الملك الذي ينهار بل العالم الذي يختفي. لقد تلاشى كل شيء عندما انطفأ الإحساس عند بيرانجيه: أما زال يتنفس؟ سألت مرغريت: نعم ياصاحبة الجلالة، أجابت جولييت، إنه مازال يتنفس، بما أننا هنا. موت الإنسان، هو قبل كل شيء موت العالم بالنسبة للإنسان. الشخصيات: مملكة. يفسّر بناء المسرحية الشخصيات إذ أن لها قيمة مزدوجة: قيمة الفكرة وقيمة الوظيفة. تمثّل الشخصيات العالم: إنهم مملكة بيرانجيه، كما أنهم حياته الصميمية أيضاً، يصوّر الحارس الحفلات الرسمية في البلاط الملكي، كما أنه المتحدث الرسمي الذي يثير الضحك، وهو أداة السلطة، يعلن الحرب عند الحاجة. جولييت هي ربّة البيت وسيدة البلاط والممرضة، وفي نهاية المسرحية تصبح جوقة الناس البسطاء، تجسّد حكمة الخضوع والاستسلام. تنازل إذن، بما أن الواجب يحتم ذلك والوفاء الحزين للملك العجوز، الطبيب - الجلاد- الفلكي يجسّد الغرور والخداع والوقاحة والتعطش للأمجاد. إنه أقوى من الملك لأنه يتمتع بالقوة السحرية دون أن تقع عليه أية مسؤولية. تمثّل الملكتان حياة الملك الخاصة، فماري تجسّد الحب كله، وسحر الحياة، والفرح الذي لا يفكّر في البعيد، وفشل الأوهام؛ أما مرغريت فهي الحكمة والعقل والنظام: زوجة شرعية وأم قاسية، مكروهة بصمت، وصية تفرض عليه على الملك، واجبه، وعلى العموم تصّور الملكتان وجهي الحياة الإنسانية: الضرورات الاجتماعية و الحب المجنون. إضافة إلى هذه القيمة الفكرية فإن للشخصيات مهمّة تؤديها ألا وهي دورها في تنفيذ تلك الشعائر. عليها أن تعلّم الملك، أن تقوده، أن تساعده. إنها موقف أمام الموت، أمّا بيرانجيه فيرى فيها الآخرون؛ أولئك الذين لا يموتون. الحارس مشاهد لا مبال. جولييت بسبب تعاطفها وصبرها، تساعد الملك على الخضوع، وتعرض له صور اندهاشه الأخيرة أمام الحياة، ماري هي العجز. أمّا الطبيب فقد اكتشف في هذا الموت أنه غير قادر على منعه أو الإسراع فيه. مرغريت تأمر بالبدء في تنفيذ الشعائر وتديرها حتى نهايتها. الشخصيات كلها لا وجود لها إذن إلاّ من خلال دورها مع بيرانجيه. ليس لها مصير شخصي، تختفي عندما لا يعود الملك يراها لكنها ستظهر من جديد بعد وفاته. بيرانجيه -تارة يدعو للشفقة وتارة للسخرية، ضعيف وجبان، مضحك وكريه، أناني وظالم، لكنه قادر على استعادة الصحو والوعي- بيرانجيه هذا عقدة من الرغبات والمخاوف، من الحسرات والآمال. إنه إنسان. كتابــــــة منظمّـــــة. لانجد في مسرحية الملك يموت تدميراً للغة ولا استخداماً آلياً لها، كما لا نجد كلاماً خيالياً غير مألوف. الفكرة ليست حلماً، والكتابة ليست آلية أبداً. إنها كتابة دقيقة متأنّية كلاسيكية كما قيل. في حوار مألوف بشكل عام، تحتل فيه الكلمات الواضحة حيّزاً كبيراً، يتدفّق الشعر من استحضار مشاهد يومية يعبّر عنها بمفردات شائعة: ماأروع ذلك. تفتحين محفظتك، تدفعين الثمن، يردون لك الباقي، تجدين في السوق أغذية من مختلف الألوان، نباتات خضراء، كرزاً أحمر، عنباً ذهبيّاً، باذنجاناً بنفسجياً... كل ألوان قوس قزح!... أمر خارق لا يصدّقه العقل، إنها حكاية من حكايات الجن. الشعر هنا اندهاش، وفي موضع آخر سحر. تؤلف الشخصيات جوقة وتأخذ اللغة شكل الصلاة. - جولييت: أنت أيتها الذكريات... - الحارس: أنت أيتها الصور القديمة... - جولييت: يا من لم يعد لك وجود إلاّ في الذاكرة... - الحارس: ذكريات ذكريات الذكريات [...] نحن نستدعيك. - ماري: أنت أيها الضباب، ابق أيها الندى. - جولييت: أنت أيها الدخان، أنت أيتها الغيوم... - ماري: أيتها القدّيسات، أيتها الحكيمات، أيتها المجنونات، هيّا إلى مساعدته لأنني لا أستطيع مساعدته. - جولييت: ساعدنه - الملك: أنتم يامن فارقتم الحياة في سرور، يا من نظرتم إلى الموت مواجهة، يامن شهدتم نهايتكم الخاصة... - جولييت: ساعدوا الملك. - ماري: ساعدوه جميعاً، ساعدوه، أتوسّل إليكم... على نقيض ذلك، تتفجر الشتائم بكلمات سوقية، مخالفة لتعاقب الأحداث، كلمات من بيئة القرون الوسطى. تتفجر الأيام الجميلة، انتهت الولائم العامرة، انتهت حفلات التعرّي؛ انتهى كل شيء! لقد وجدت سطوة مرغريت تعابير مقتضبة: لاتنوحي. أكرر لك ذلك، أنصحك به وآمرك به. سخرية الشعائر والتهكم بالحياة والموت، ثمّ التعبير عنهما من خلال التلاعب بالألفاظ، يكرر الحارس كلمات الملك المؤثرة بصداها المضحك: - أنت تموت لشأن يتعلّق بالدولة. - لكن الدولة هي أنا [...] - الملك: إنني أموت فليمتْ كل شيء، كلاّ، ليبقَ كل شيء، كلا، ليمت كل شيء ما دام موتي لا يستطيع أن يملأ الأكوان! ليمت كل شيء، كلا، ليبق كل شيء. - الحارس: يريد صاحب الجلالة الملك أن يبقى كل الباقي. - الملك: كلا، ليمت كل شيء. - الحارس: يريد صاحب الجلالة الملك أن يموت كل شيء. أخيراً، إن إعادة تمثيل المسرحية، تأخذ بالحسبان أحياناً، الزمن المخصص للعرض من أجل أداء إبداعي. ستموت بعد ساعة ونصف. ستموت عند نهاية العرض. يحطّم هذا التراكب في الأزمنة وهم مشابهة الحقيقة لكنه يضفي على موت الملك طابعاً حتمياً لا مفرّ منه، لأن الحدث المعروض، وهو الاحتضار، يخضع لضغط زمن حقيقي، هو مدة المشهد.