يترافق تمزّق الشخصية مع تفتت اللغة. لم يعد الكلام نظاماً للاتصال بين الناس. عندما تخضع الحياة للمادة، وعندما يفرغ الفكر من جوهره لا يبقى هناك حوار ولا تبادل بل هذيان. يتحدث المرء ولا يقول شيئاً لأنّه لم يبق شيء يقال، لأنّه لم يبق هناك فكر مبتكر أصيل ولا انفعال ولا وجود حقيقي:إنّني أتأكد من تدمير وتشويه اللغة الإراديين وأعلن ذلك كما كتب يونسكو في مقدمة ملاحظات وملاحظات مضادة. الكتابة تعني بكل وضوح استنزاف اللغة، وكل كاتب يطرح مسألة الكلام من جديد، لكنه يعيد طرح المشكلة ليضعها في مكانها الصحيح وليعطيها قيمتها الأولى كوسيلة للسحر والتعبير وإلاّ فإنّ الكتابة لن تعني شيئاً. كان يونسكو مقتنعاً بذلك وبقي على قناعاته دائماً. منذ قرن تقريباً، منذ رامبو وماراميه وفلوبير أصبح الجدال حول اللغة ساخناً بشكل خاص. وفي الحقيقة فإن الكلام اللوغوس سجين داخل المنطق ولا يستطيع اكتشاف اللامعقول بطريقة صحيحة. إضافة إلى ذلك فإنه عتيق بالٍ أسقمه سوء الاستخدام الذي تقوم به الايديولوجيات: سوء الاستخدام نلمحه في خطاب الأم بيبا الذي كاد أن يكون كاريكاتورياً. تبيّن الدعايات وتقنيات الاتصال بين الجماعات كم في التعبير من اضطهاد وطغيان. ينتهي الأمر بالكلام إلى أن ينفصل عن الحياة؛ وكان يونسكو قادراً أكثر من غيره، بسبب لغته المزدوجة، على الإحساس أن في التعبير عن تجربة ما خيانة دائمة لها. لقد قام مسرحه بتدمير اللغة ثم أعاد بناءها بشكل صحيح. ولا تملك شخصيات يونسكو، عموماً، كلاماً خاصاً بها. إنها تستخدم مفردات كل الناس في صيغ يستخدمها كل الناس أيضاً. إنها لا تملك ناصية اللغة، التي تعمل في نهاية الأمر لوحدها، حسب ميكانيكية خاصة بها. قد تصرّ الآلة أحياناً، تتعطل، تصنع نماذج مشوهة، لكن اللغة تتابع طريقها، فمن خارج الشخصيات، أو بالأحرى من خلالها، يتمّ الكلام فيتشكل شيء ما ثم يتلاشى. ينشأ الخلل في اللغة من تفتيت الدلالة اللغوية والفصل بين اللفظة ومدلولها، ففي الطريقة الطبيعية للتفاهم يحتلّ المدلول المرتبة الأولى ويفتش المستمع عن التعبير الملائم لمضمون أفكاره. قَلَبَ يونسكو هذه الطريقة إذ انطلق من الكلمة أو من التركيب التعبيري الذي يعطيه مضموناً غير ملائم أو يتركه دون أي مضمون، وهكذا يصل المرء إلى اللامعقول. تتطوّر الحركة الدرامية في الامتثال انطلاقاً من كلمات فارغة من المعنى: يلجأ جاك الذي تُرك على هواه إلى التمرّد والثورة، لكنه يستسلم عندما تعلّمه أخته، بكلمةواحدة، أو بسبع وعشرين كلمة أنّه قابل للتوقيت Chronometrable. على عكس ذلك فإن قيمة الكلمات ودلالاتها الدقيقة يمكن أن تصبح مدلولاً غير ملائم:أنت تنام واقفاً!- أنا جالس...-جالس أم واقف فالأمر سيّان. التأثير هنا مضحك، وفي مكان آخر يكون سبباً في عدم التفاهم:أنت عنيد! - أنت تعاملينني الآن كحمار، ولقد تأخرت من طول تأمّلك فيها- أنتِ تعدّين لي الدقائق!، أنا عبدة- لقد أُلغي نظام العبودية ياصغيرتي..... لا ينسجم معنى الكلمات مع شكلها، فهي غير صالحة للتبادل فتحدث بعض التغيرات خاصة بواسطة التشابه في اللفظ فيستخرج يونسكو من ذلك مادة مسرحية كنت بجانب صديقي جان وكان هناك أناس آخرون.- أقسم أنك لا تدري ماتقول. هذا التنافر بين الكلمة والمدلول يسلب الكلام قوته الإعلامية، ويبقى مجرد ببغائية، ولا تعود الأجوبة والردود مرتبطة بتسلسل الأفكار، والكلمات تتوالى ومجموعات على أساس الجذور اللفظية والدلالات والتصريفات والمقاطع الصوتية، كما أن الارتبطات المجازية والكنايات تمنح الكلام ملامح الحماقة والجنون: لقد كنّا مبللين منذ ساعات وأيام وليالي وأسابيع وشهور....كانوا يصفقون بآذانهم وأقدامهم وركبهم وأنوفهم وأسنانهم.... بعض الأجوبة كانت إعراباً وتصاريف أفعال لكن يونسكو يتلاعب غالاباً بالجناس والأخطاء الإملائية:ضحك الناس آنذاك من ذلك الغبي الذي وصل عارياً تماماً، ضحكوا من الكيس، كيس الرز..... بوجود ما عندنا من رؤساء عمال (كونترمتر)، ونواب معلمين (فيستمر) وحماة المعلمين (بارامتر) وماحول المعلمين (بيريمتر).....، لجأ يونسكو، وهو الحساس المرهف، لمثل هذه الألعاب من أجل المتعة فقط في يومياته واستخدم منها عناصر مضحكة في مسرحه لكنه يقصد من وراء ذلك إلى تدمير سلطان اللغة. عندما تفقد الكلمات معناها فإن قوقعتها الفارغة تتحطّم. تنقبض الكلمات وتكشّر:لقدوضعت في هذا العالم ممسخاً، أنت بشعوع، لقد تربّى دون أية مآخذ عليه مثل ارستقرافي. تتفجر الكلمات أخيراً ولا يبقى سوى مقاطع لفظية، أحرف صوتية أو أحرف رنّانة، تتقاذفها الشخصيات عند نهاية مسرحيات: المغنية الصلعاء، جاك، الكراسي. ضوضاء، مواء، خوار هي اللغة الوحيدة. الكلمات لا تعبّر عن شيء وتعبّر عن كل شيء في الوقت ذاته. في مسرحية اميديه تعبّر كلمة اليدوليا..... التعجبية عن كل أفكار الحوار المستحيل بين مادلين واميديه. ادوليا اميدية اسيدوليا، مادلين، الخ.... وفي مسرحية الامتثال يغدو كل شيء بالنسبة لجاك وروبرتا هرّاً:لتمييز الأشياء هناك كلمة وحيدة: هرّ، الهررة، تسمّى هرّاً، الأطعمة تسمّى هرّاً، الحشرات تسمّى هرّاً، الكراسي تسمّى هرّاً، أنت هرّ، أنا هرّ، السطح هرّ..... يصبح الكلام سهلاً أو لم يعد هناك داعٍ للكلام... التفاهم لم يعد موجوداً، والكلمة تغدو حشواً، واللغة دون هدف، تتكاثر دون رقابة. في حكاية رجل الإطفاء ودرس المدرّس، وتصريحات بيرانجيه، الكلمات تسيل، تنسكب على المسرح، في الصالة، تغزو المكان، كلام لا عضوي، مرضي. لقد أصيب الكلام بمرض السرطان. شكل خاص من أشكال السرطان في العالم الحديث، هوتضخّم المصطلحات التقنية. يسخر يونسكو من هذا التشويه اللغوي. جاك،ضحايا الواجب، الكركدنمسرحيات تزدحم باصطلاحات التحليل النفسي: العقدة، النكوص، السقطة، التحويل، الإعلاء. يتحدث بيرانجيه عن مسخ السيد بابيون فيقول:لا شك أنه حدث فاشل. وفي مسرحية ألما يستغّل يونسكو مفردات الفلاسفة الوجوديين والنقّاد البنيويين، بل إنه يخترع مفردات جديدة، موجود -داخل الشيء- وهو خارج الشيء. وجود عدم الوجود، علم الديكور (ديكور ولوجي) فن الملابس (كوستوموديه) التأريخانية، المشاركة الديالكتيكية، علم النفس الاجتماعي للمشاهدين (سبكتا توسيكو سوسويولوجي) spectatapsychosoeiologie..... وفي مسرحية قاتل بلا أجر تزدهر مفردات التكنوقراط:هناك المبدأ التنظيمي الأساسي ووجهة النظر التنظيمية للبنية الفوقية.... أخيراً.. يحب يونسكو التلاعب بأسماء الشخصيات، في ضحايا الواجب هناك شوبير ونيكولا دو، والرجال الذين يمسخون، كركدنات يحملون أسماء بقرة، فراشة، كما نجد السيد لولار والسيد بوليسون والأسقف مورفان، وتريب وبيريختول. نجد ضعف المعنى، والاستهزاء باللغة على مستوى المفردات أولاً، لكن المفردات تنضوي تحت أشكال الأقوال المأثورة، والحكم... يفرّغ يونسكو هذه الأشكال من مضامينها، وهذه وسيلة تدمير أكثر براعة... يمكن أن نستخرج من مسرحيات يونسكو معجماً للأفكار المقتبسة. إنّنا نفكر بفلوبير، وقد فكّر يونسكو فيه أيضاً. الحقائق التي غدت عامّة، مبتذلة، تنبثق لدى كل كلام وبالأحرى خارج كل حديث: آه،.. ياللتهذيب الفرنسي، وليس كما نرى عند شباب هذه الأيام، العنصرية من أفدح الأخطاء في هذا القرن لابدّ أنها الصحون الطائرة، ليس هناك مهنة غبية. أمّا مسرحية صبيّة للزواج فتتألف من كليشهات متتالية. طريقة أخرى مختلفة قليلاً هي:التلصيق (الكولاج). يظهر أثناء الحوار استشهاد تاريخي أو أدبي لا تدركه الشخصيات. إنها غمزة عين يوجهها المؤلف للجمهور:لا تلمسها، إنها محطّمة، كما قالت السيدة سميث، أمّا جاك فيقول: كوني أختاً جديرة بأخ مثلي، أمّا الدكاترة في مسرحية الما فإنهم يتبادلون الشتائم بسبب مفردات إحدى حكايات لافونتين:عجل... بقرة... خنزير....، ويذكر السيد الضخم في مسرحية اللوحة الشاعر بودلير دون أن يعرفه.. ليست هذه التجمعات غير المألوفة للمفردات لعبة بل هي أداة لكشف الأفكار المكبوتة. يتذكر القارئ تلك الحوارات القصيرة، التي استخدمتها ناتالي ساروت. المدرّس يفضح رغباته اللاواعية أنتِ شهية..... إياك والوقاحة أيتها الفتاة اللعوب، وإلا فحذار..... تحتفظ الأجوبة غالباً بصيغة الكلام المألوف، لكن دارات قصيرة تُدخل إليه مضموناً غريباً شاذاً مما يؤدي إلى بديهيات كاذبة، يجب على الطبيب المخلص أن يموت مع المريض إذا لم يكن في الإمكان أن يشفيا معاً: مثلما يهلك قبطان السفينة مع سفينته في الأمواج، زوجتي هي الذكاء عينه. إنها أكثر ذكاءً مني على كل حال. وتفوقني في الأنوثة إلى حد بعيد، داعب حلقه ما، تغدو دائرة فاسدة (Lecercle vicieux): الدائرة الفاسدة في علم المنطق هي الاستدلال الخاطئ.، ليس لأنني لا أبالي بالأديان، يمكن أن يقال إنني لا أحترمها..عندي فطيرة من لحم الأرنب الغضّ، محشوّة بلحم الخنزير الصافي. يكثر يونسكو من استخدام الأقوال المأثورة المشوّهة ليتّهم تردد الشخصيات وليؤكد فقر الفكر السائد. هناك مشاهد كاملة في المغنية الصلعاء، ومعرض السيارات وجاك، واميديه ومسرحية الما، وقاتل بلا أجر، مبنيّة على لغو لا معنى له، مرصوف، متلاصق الأطراف، من يبيع اليوم عجلاً سينال بيضة غداً، هل أتيتم إلى معرض السيارات لتأخذوا دروساً في اللغة الفرنسية؟ هذه ستة فرنكات معدنية ونصف كيلو من الكرنب المخلل! من ناحية أخرى يمكن أن نزوّدك بمجلس إدارة مؤلف من تسع أعضاء يمكن إعادة انتخابهم، وبيضة. على مستوى آخر، أكثر تطوراً ودقة يتعرض الكلام القادر على الكشف للتشويه. يتمّ الحفاظ على تراكيب الاستدلال لكنها تكون مزيّفة. تقوم السيدة سميث بعملية استقراء:لقد علمتنا التجربة أنه عندما يُقرع الباب فمعنى ذلك أن لا أحد هناك. أمّا رجل المنطق في مسرحية الكركدن فيشرح عملية القياس لكنه في الحقيقة يؤدي إلى استنتاج زائف. كيف تلحظ، على امتداد الحوار، إنه يعكس المقدمتين (الكبرى والصغرى) أو أنّه يستبدل المسند إليه بالفاعل؟ من الآن فصاعداً، سيسمو هذا المنطق الأعوج- الذي -تمتد مظاهره المتعددة، من الحساب الذهني إلى الأخلاق- بتبرير أي شيء: من فظاظة السيد العجوز إلى شعارات الأم بيبا. إنه يبرئ الحماقة والاستبداد. إنّه مضحك جداً، لكنه مرعب أيضاً فلا تعود اللغة مدعاة للضحك بل تصبح خطيرة. أحاديث المدرّس، والأم بيبا، وبوتار وجان والأخ تاراباس، كلها كلاّم قاتل. يكشف يونسكو في اللغة، إضافة إلى التلف؛ منهجاً للحرب الحديثة. أزمة اللغة من جانب منهاجي أزمة مصطنعة ومقصودة.. يمكن للكلام أن يكون أداة اتصال حقيقية. يونسكو، الكاتب، يعتقد ذلك. الكتابة تعني الإيمان بالقيمة الخلاّقة للغة. الكتابة؛ حسب كلمات رامبو، هي إيجاد لغة، تعطي شكلاً لما لا يُقال. لهذا السبب ينشأ حوار حقيقي بين بيرانجيه وديزي، بين الملك وجولييت، بين جان وماري-مادلين.كثيراً مايناجي المرء نفسه ويعبّر عن ذاته اللاواعية، جاك، شوبير، اميديه، بيرانجيه، جوزفين، جان، ماري-مادلين.... للتعبير عن الهلوسات، وللإفصاح عن الدهشة أو القلق، عن الحب المجنون أو الخوف من الموت. جميع صور العالم، جميع المشاهد اليومية، الألوان، والأناشيد، العطور تؤلف كلّها مونولوجاً غنائياً. تعبّر الاستعارات عن الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه في حالة الاندهاش أو الرعب. آنذاك تصبح اللغة شعرية. هذه اللحظات نادرة. هاهو شوبير يتحدث عن نزوله إلى المتاهة، واميديه يتحدث عن الحب المجنون، ويتحدث بيرانجيه عن المدينة المشعّة، ويتحدث الماشي في الهواء عن ماوراء العالم؛ ويتحدث الملك عن الأمور اليومية الرائعة، ويتحدث جان عن المرأة التي يحلم بها. إضافة إلى ذلك كله، هناك دائماً شخصية تحيل الموقف إلى سخرية عندما تتعاظم هذه النزعة الغنائية: مادلين تسخر من شوبير،ويسخر الإنكليز من بيرانجيه، وحارسا المتحف يسخران من جان... ممارسة الكتابة عند يونسكو، إذا لم تكن يائسة، فهي متشائمة، مع ذلك فإن تدمير اللغة ثم إعادة بنائها تجعل من مسرحه عملية تأمّل وتفكير حول الكلمة باعتبارها صيغة من صيغ المعرفة والعمل.