إنما حصلت من اللّه، لأنه تعالى خلق تلكالداعية في قلوبهم و كانت تلك الداعيةنعمة من اللّه مستلزمة لحصول الفعل، و ذلكيبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال، قالالكعبي: إن ذلك بالهداية و البيان والتحذير و المعرفة و الألطاف.
قلنا: كل هذا كان حاصلًا في زمان حصولالمحاربات و المقاتلات، فاختصاص أحدالزمانين بحصول الألفة و المحبة لا بد أنيكون لأمر زائد على ما ذكرتم.
ثم قال تعالى: وَ كُنْتُمْ عَلى شَفاحُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْمِنْها.
و اعلم أنه تعالى لما شرح النعمة الدنيويةذكر بعدها النعمة الأخروية، و هي ما ذكرهفي آخر هذه الآية، و في الآية مسائل:
المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم علىجهنم، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيهاالنار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهمكالإشراف منهم على النار، و المصير منهمإلى حفرتها، فبيّن تعالى أنه أنقذهم منهذه الحفرة، و قد قربوا من الوقوع فيها.
قالت المعتزلة: و معنى ذلك أنه تعالى لطفبهم بالرسول عليه السلام و سائر ألطافهحتى آمنوا قال أصحابنا: جميع الألطافمشترك فيه بين المؤمن و الكافر، فلو كانفاعل الإيمان و موجده هو العبد لكان العبدهو الذي أنقذ نفسه من النار، و اللّه تعالىحكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار، فدل هذاعلى أن خالق أفعال العباد هو اللّه سبحانهو تعالى.
شفا الشيء حرفه مقصور، مثل شفا البئر والجمع الإشفاء، و منه يقال: أشفى علىالشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه، أيحده و حرفه و قوله فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهاقال الأزهري: يقال نقذته و أنقذته واستنقذته، أي خلصته و نجيته.
و في قوله فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها سؤال وهو: أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذيكانوا فيه و هم كانوا على شفا حفرة، و شفاالحفرة مذكر فكيف قال منها؟.
و أجابوا عنه من وجوهالأول: الضمير عائدإلى الحفرة و لما أنقذهم من الحفرة فقدأنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منهاوالثاني: أنها راجعة إلى النار، لأن القصدالإنجاء من النار لا من شفا الحفرة، و هذاقول الزجاج الثالث: أن شفا الحفرة، و شفتهاطرفها، فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث.
أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار،فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع فيالنار بالقعود على حرفها، و هذا فيه تنبيهعلى تحقير مدة الحياة، فإنه ليس بينالحياة و بين الموت المستلزم للوقوع فيالحفرة إلا ما بين طرف الشيء، و بين ذلكالشيء، ثم قال: كَذلِكَ يُبَيِّنُاللَّهُ الكاف في موضع نصب، أي مثل البيانالمذكور يبين اللّه لكم سائر الآيات لكيتهتدوا بها، قال الجبائي: الآية تدل علىأنه تعالى يريد منهم الاهتداء، أجابالواحدي عنه في «البسيط» فقال: بل المعنىلتكونوا على رجاء هداية.
و أقول: و هذا الجواب ضعيف لأن على هذاالتقدير يلزم أن يريد اللّه منهم ذلكالرجاء و من المعلوم أن على مذهبنا قد لايريد ذلك الرجاء، فالجواب الصحيح أن يقالكلمة (لعلّ) للترجي، و المعنى أنا فعلنافعلًا يشبه فعل من يترجى ذلك و اللّه أعلم.