استدلت نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا:الأحكام الشرعية إما أن يقال: إنه سبحانهنصب عليها دلائل يقينية أو نصب عليهادلائل ظنية، فإن كان الأول امتنع الاكتفاءفيها بالقياس الذي يفيد الظن، لأن الدليلالظني لا يكتفى به في الموضع اليقيني، و إنكان الثاني كان الأمر بالرجوع إلى تلكالدلائل الظنية يتضمن وقوع الاختلاف ووقوع النزاع، فكان ينبغي أن لا يكونالتفرق و التنازع منهياً عنه، لكنه منهيعنه لقوله تعالى:وَ لا تَفَرَّقُوا و قوله وَ لاتَنازَعُوا و لقائل أن يقول: الدلائلالدالة على العمل بالقياس تكون مخصصةلعموم قوله وَ لا تَفَرَّقُوا و لعمومقوله وَ لا تَنازَعُوا و اللّه أعلم.ثم قال تعالى: وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَاللَّهِ عَلَيْكُمْو اعلم أن نعم اللّه على الخلق إما دنيويةو إما أخروية و إنه تعالى ذكرهما في هذهالآية، أما النعمة الدنيوية فهي قولهتعالى: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَبَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْبِنِعْمَتِهِ إِخْواناً و فيه مسائل:
المسألة الأولى:
قيل إن ذلك اليهودي لما ألقى الفتنة بينالأوس و الخزرج و هم كل واحد منهما بمحاربةصاحبه، فخرج الرسول صلّى الله عليه وسلّمو لم يزل يرفق بهم حتى سكنت الفتنة و كانالأوس و الخزرج أخوين لأب و أم، فوقعتبينهما العداوة، و تطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ اللّه ذلكبالإسلام، فالآية إشارة إليهم و إلىأحوالهم، فإنهم قبل الإسلام كان يحارببعضهم بعضاً و يبغض بعضهم بعضاً، فلماأكرمهم اللّه تعالى بالإسلام صارواإخواناً متراحمين متناصحين و صاروا إخوةفي اللّه: و نظير هذه الآية قوله لَوْأَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ماأَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّاللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال: 63].و اعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كانمعادياً لأكثر الخلق، و من كان وجهه إلىخدمة اللّه تعالى لم يكن معادياً لأحد، والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرىالكل أسيراً في قبضة القضاء و القدر فلايعادي أحداً، و لهذا قيل: إن العارف إذاأمر أمر برفق و يكون ناصحاً لا يعنف و يعيرفهو مستبصر بسر اللّه في القدر.
المسألة الثانية:
قال الزجاج: أصل الأخ في اللغة من التوخي وهو الطلب فالأخ مقصده مقصد أخيه، و الصديقمأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقينصاحبه ما في قلبه، و لا يخفى عنه شيئاً وقال أبو حاتم قال أهل البصرة: الاخوة فيالنسب و الإخوان في الصداقة، قال و هذاغلط، قال اللّه تعالى: إِنَّمَاالْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] و لميعن النسب، و قال: أَوْ بُيُوتِإِخْوانِكُمْ [النور: 61] و هذا في النسب.
المسألة الثالثة:
قوله فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِإِخْواناً يدل على أن المعاملات الحسنةالجارية بينهم بعد الإسلام