أنه تعالى ذكر النبيّين على سبيلالمغايبة ثم قال: آتَيْتُكُمْ و هو مخاطبةإضمار و التقدير: و إذ أخذ اللّه ميثاقالنبيّين فقال مخاطباً لهم لما آتيتكم منكتاب و حكمة، و الإضمار باب واسع فيالقرآن، و من العلماء من التزم في هذهالآية إضماراً آخر و أراح نفسه عن تلكالتكلفات التي حكيناها عن النحويين فقالتقدير الآية: و إذ أخذ اللّه ميثاقالنبيّين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتابو حكمة، قال إلا أنه حذف لتبلغن لدلالةالكلام عليه لأن لام القسم إنما يقع علىالفعل فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل لاجرم حذفه اختصاراً ثم قال تعالى بعدهثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمامَعَكُمْ و هو محمد صلّى الله عليه وسلّملَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ وعلى هذا التقدير يستقيم النظم و لا يحتاجإلى تكليف تلك التعسفات، و إذا كان لا بدمن التزام الإضمار فهذا الإضمار الذي بهينتظم الكلام نظماً بيناً جلياً أولى منتلك التكلفات.
المسألة الرابعة:
في قوله لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍإشكال، و هو أن هذا الخطاب إما أن يكون معالأنبياء أو مع الأمم، فإن كان معالأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتواالكتاب، و إنما أوتي بعضهم و إن كان معالأمم، فالإشكال أظهر، و الجواب عنه منوجهينالأول: أن جميع الأنبياء عليهمالسلام أوتوا الكتاب، بمعنى كونه مهتدياًبه داعياً إلى العمل به، و إن لم ينزلعليهو الثاني: أن أشرف الأنبياء عليهمالسلام هم الذين أوتوا الكتاب، فوصف الكلبوصف أشرف الأنواع.
المسألة الخامسة:
الكتاب هو المنزل المقروء و الحكمة هيالوحي الوارد بالتكاليف المفصلة التي لميشتمل الكتاب عليها.
المسألة السادسة:
كلمة (من) في قوله مِنْ كِتابٍ دخلتتبييناً لما كقولك: ما عندي من الورقدانقان.أما قوله تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌمُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ ففيه سؤالات:
السؤال الأول:
ما وجه قوله ثُمَّ جاءَكُمْ و الرسول لايجيء إلى النبيّين و إنما يجيء إلىالأمم؟.و الجواب: إن حملنا قوله وَ إِذْ أَخَذَاللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ على أخذميثاق أممهم فقد زال السؤال و إن حملناهعلى أخذ ميثاق النبيّين أنفسهم كان قولهثُمَّ جاءَكُمْ أي جاء في زمانكم.
السؤال الثاني:
كيف يكون محمد صلّى الله عليه وسلّممصدقاً لما معهم مع مخالفة شرعه لشرعهم،قلنا: المراد به حصول الموافقة فيالتوحيد، و النبوات، و أصول الشرائع، فأماتفاصيلها و إن وقع الخلاف فيها فذلك فيالحقيقة ليس بخلاف، لأن جميع الأنبياءعليهم السلام متفقون على أن الحق في زمانموسى عليه السلام ليس إلا شرعه و أن الحقفي زمان محمد صلّى الله عليه وسلّم ليس إلاشرعه، فهذا و إن كان يوهم الخلاف، إلا أنهفي الحقيقة وفاق، و أيضاً فالمراد من قولهثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمامَعَكُمْ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بكونه مصدقاً لما معهم هو أن وصفه وكيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل، فلما ظهر على أحوال مطابقة لماكان مذكوراً في تلك الكتب، كان نفس مجيئهتصديقاً لما كان معهم، فهذا هو المرادبكونه مصدقاً لما معهم.
السؤال الثالث:
حاصل الكلام أن اللّه تعالى أخذ الميثاقعلى جميع الأنبياء بأن يؤمنوا بكل رسوليجيء مصدقاً لما معهم فما معنى ذلكالميثاق.