إنما حسن ذكر الظلم ههنا لأنه تقدم ذكرالعقوبة الشديدة و هو سبحانه و تعالى أكرمالأكرمين، فكأنه تعالى يعتذر عن ذلك و قالإنهم ما وقعوا فيه إلا بسبب أفعالهمالمنكرة، فإن مصالح العالم لا تستقيم إلابتهديد المذنبين، و إذا حصل هذا التهديدفلا بد من التحقيق دفعاً للكذب، فصار هذاالاعتذار من أدل الدلائل، على أن جانبالرحمة غالب، و نظيره قوله تعالى في سورة(عم) بعد أن ذكر وعيد الكفار إِنَّهُمْكانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [النبأ: 27،28] أي هذا الوعيد الشديد إنما حصل بسبب هذهالأفعال المنكرة.
المسألة الثانية:
قال الجبائي: هذه الآية تدل على أنهسبحانه لا يريد شيئاً من القبائح لا منأفعاله و لا من أفعال عباده، و لا يفعلشيئاً من ذلك، و بيانه: و هو أن الظلم إماأن يفرض صدوره من اللّه تعالى، أو منالعبد، و بتقدير صدوره من العبد، فإما أنيظلم نفسه و ذلك بسبب إقدامه على المعاصيأو يظلم غيره، فأقسام الظلم هي هذهالثلاثة، و قوله تعالى: وَ مَا اللَّهُيُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ نكرة فيسياق النفي، فوجب أن لا يريد شيئاً ممايكون ظلماً، سواء كان ذلك صادراً عنه أوصادراً عن غيره، فثبت أن هذه الآية تدل علىأنه لا يريد شيئاً من هذه الأقسامالثلاثة، و إذا ثبت ذلك وجب أن لا يكونفاعلًا لشيء من هذه الأقسام، و يلزم منهأن لا يكون فاعلًا للظلم أصلًا و يلزم أنلا يكون فاعلًا لأعمال العباد، لأن منجملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم و ظلم بعضهمبعضاً، و إنما قلنا: إن الآية تدل على كونهتعالى غير فاعل للظلم ألبتة لأنها دلت علىأنه غير مريد لشيء منها، و لو كان فاعلًالشيء من أقسام الظلم لكان مريداً لها، وقد بطل ذلك، قالوا: فثبت بهذه الآية أنهتعالى غير فاعل للظلم، و غير فاعل لأعمالالعباد، و غير مريد للقبائح من أفعالالعباد، ثم قالوا: إنه تعالى تمدح بأنه لايريد ذلك، و التمدح إنما يصح لو صح منه فعلذلك الشيء و صح منه كونه مريداً له، فدلتهذه الآية على كونه تعالى قادراً علىالظلم و عند هذا تبجحوا و قالوا: هذه الآيةالواحدة وافية بتقرير جميع أصول المعتزلةفي مسائل العدل، ثم قالوا: و لما ذكر تعالىأنه لا يريد الظلم و لا يفعل الظلم قالبعده وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ مافِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُالْأُمُورُ و إنما ذكر هذه الآية عقيب ماتقدم لوجهينالأول: أنه تعالى لما ذكر أنهلا يريد الظلم و القبائح استدل عليه بأنفاعل القبيح إنما يفعل القبيح إما للجهل،أو العجز، أو الحاجة، و كل ذلك على اللّهمحال لأنه مالك لكل ما في السموات و ما فيالأرض، و هذه المالكية تنافي الجهل والعجز و الحاجة، و إذا امتنع ثبوت هذهالصفات في حقه تعالى امتنع كونه فاعلًاللقبيحو الثاني: أنه تعالى لما ذكر أنه