إنما قال فَتَقَبَّلَها رَبُّهابِقَبُولٍ حَسَنٍ و لم يقل: فتقبلها ربهابتقبل لأن القبول و التقبل متقاربان قالتعالى: وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَالْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] أي إنباتاً، والقبول مصدر قولهم: قبل فلان الشيءقبولًا إذا رضيه، قال سيبويه: خمسة مصادرجاءت على فعول: قبول و طهور و وضوء و وقود وولوغ، إلا أن الأكثر في الوقود إذا كانمصدرا الضم، و أجاز الفراء و الزجاج: قبولابالضم، و روى ثعلب عن ابن الأعرابي يقال:قبلته قبولا و قبولا، و في الآية وجه آخر وهو أن ما كان من باب التفعل فإنه يدل علىشدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعلكالتصبر و التجلد و نحوهما فإنهما يفيدانالجد في إظهار الصبر و الجلادة، فكذا ههناالتقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول.فإن قيل: فلم لم يقل: فتقبلها ربها بتقبلحسن حتى صارت المبالغة أكمل؟ و الجواب: أنلفظ التقبل و إن أفاد ما ذكرنا إلا أنهيفيد نوع تكلف على خلاف الطبع، أما القبولفإنه يفيد معنى القبول على وفق الطبع فذكرالتقبل ليفيد الجد و المبالغة، ثم ذكرالقبول ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع،بل على وفق الطبع، و هذه الوجوه و إن كانتممتنعة في حق اللّه تعالى، إلا أنها تدل منحيث الاستعارة على حصول العناية العظيمةفي تربيتها، و هذا الوجه مناسب معقول.
المسألة الثانية: ذكر المفسرون في تفسيرذلك القبول الحسن وجوها:
الوجه الأول:
أنه تعالى عصمها و عصم ولدها عيسى عليهالسلام من مس الشيطان روى أبو هريرة أنالنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما منمولود يولد إلا و الشيطان يمسه حين يولدفيستهل صارخا من مس الشيطان إلا مريم وابنها» ثم قال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهامِنَ الشَّيْطانِ طعن القاضي في هذا الخبرو قال: إنه خبر واحد على خلاف الدليل فوجبرده، و إنما قلنا: إنه على خلاف الدليللوجوهأحدها: أن الشيطان إنما يدعو إلىالشر من يعرف الخير و الشر و الصبي و ليسكذلكو الثاني: أن الشيطان لو تمكن من هذاالنخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحينو إفساد أحوالهمو الثالث: لم خص بهذاالاستثناء مريم و عيسى عليهما السلام دونسائر الأنبياء عليهم السلام الرابع: أنذلك النخس لو وجد بقي أثره، و لو بقي أثرهلدام الصراخ و البكاء، فلما لم يكن كذلكعلمنا بطلانه، و اعلم أن هذه الوجوهمحتملة، و بأمثالها لا يجوز دفع الخبر واللّه أعلم.
الوجه الثاني:
في تفسير أن اللّه تعالى تقبلها بقبولحسن، ما روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها فيخرقة و حملتها إلى المسجد و وضعتها عندالأحبار أبناء هارون، و هم في بيت المقدسكالحجبة في الكعبة، و قالت:خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنهاكانت بنت إمامهم، و كانت بنو ماثان رؤوسبني إسرائيل و أحبارهم و ملوكهم فقال لهمزكريا: أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا لاحتى نقترع عليها، فانطلقوا و كانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التيكانوا يكتبون الوحي بها على أن كل من ارتفعقلمه فهو الراجح، ثم ألقوا أقلامهم ثلاثمرات، ففي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوقالماء و ترسب أقلامهم فأخذها زكريا.