في سبب نزول هذه الآية وجوهالأول: قالابن عباس: لما قالت اليهود عزير ابن اللّه،و قالت النصارى: المسيح ابن اللّه نزلت هذهالآيةالثاني: قيل إن أبا رافع القرظي مناليهود و رئيس و فد نجران من النصارى قالالرسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: أ تريدأن نعبدك و نتخذك رباً، فقال عليه الصلاة والسلام «معاذ اللّه أن نعبد غير اللّه أوأن نأمر بغير عبادة اللّه فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» فنزلت هذه الآيةالثالث:قال رجل يا رسول اللّه نسلم عليك كما يسلمبعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ فقال عليهالصلاة و السلام: «لا ينبغي لأحد أن يسجدلأحد من دون اللّه، و لكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله» الرابع: أن اليهود لماادعوا أن أحداً لا ينال من درجات الفضل والمنزلة ما نالوه، فاللّه تعالى قال لهم:إن كان الأمر كما قلتم، وجب أن لا تشتغلواباستعباد الناس و استخدامهم و لكن يجب أنتأمروا الناس بالطاعة للّه و الانقيادلتكاليفه و حينئذ يلزمكم أن تحثوا الناسعلى الإقرار بنبوّة محمد صلّى الله عليهوسلّم، لأن ظهور المعجزات عليه يوجب ذلك،و هذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قولهثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداًلِي مِنْ دُونِ اللَّهِ مثل قولهاتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِاللَّهِ [التوبة: 31].
المسألة الثانية:
اختلفوا في المراد بقوله ما كانَلِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُالْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداًلِي مِنْ دُونِ اللَّهِ على وجوهالأول:قال الأصم: معناه، أنهم لو أرادوا أنيقولوا ذلك لمنعهم الدليل عليه قولهتعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَالْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُبِالْيَمِينِ [الحاقة: 44، 45] قال: لَقَدْكِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاًقَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَالْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء:74، 75] الثاني: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موصوفون بصفات لا يحسن مع تلكالصفات ادعاء الإلهية و الربوبية منها أناللّه تعالى آتاهم الكتاب و الوحي و هذا لايكون إلا في النفوس الطاهرة و الأرواحالطيبة، كما قال اللّه تعالى: اللّه أعلمحيث يجعل رسالاته [الأنعام: 124] و قال: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍعَلَى الْعالَمِينَ [الدخان: 32] و قالاللّه تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَالْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ[الحج: 75] و النفس الطاهرة يمتنع أن يصدرعنها هذه الدعوى، و منها أن إيتاء النبوّةلا يكون إلا بعد كمال العلم و ذلك لا يمنعمن هذه الدعوى، و بالجملة فللإنسان قوتان:نظرية و عملية، و ما لم تكن القوة النظريةكاملة بالعلوم و المعارف الحقيقية و لمتكن القوة العملية مطهرة عن الأخلاقالذميمة لا تكون النفس مستعدة لقبول الوحيو النبوّة، و حصول الكمالات في القوةالنظرية و العملية يمنع من مثل هذا القول والاعتقاد، الثالث: أن اللّه تعالى لا يشرفعبده بالنبوّة و الرسالة إلا إذا علم منهأنه لا يقول مثل هذا الكلامالرابع: أنالرسول ادعى أنه يبلغ الأحكام عن اللّهتعالى، و احتج على صدقه في هذه الدعوى فلوأمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالةالمعجزة على كونه صادقاً، و ذلك غير جائز،و اعلم أنه ليس المراد من قوله ما كانَلِبَشَرٍ ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلاملأن ذلك محرم على كل الخلق، و ظاهر الآيةيدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أناللّه آتاه الكتاب و الحكم و النبوّة، وأيضاً لو كان المراد منه التحريم لما كانذلك تكذيباً للنصارى في ادعائهم ذلك علىالمسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجلفعلًا فقيل له إن فلان لا يحل له أن يفعلذلك لم يكن تكذيباً له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلامقال لهم: اتخذوني إلهاً من دون اللّهفالمراد إذن ما قدمناه، و نظيره قولهتعالى: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَمِنْ وَلَدٍ [مريم: 35] على سبيل النفي لذلكعن نفسه، لا على وجه التحريم و الحظر، وكذا قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْيَغُلَّ [آل عمران: 161] و المراد النفي لاالنهي و اللّه أعلم.