قوله تعالى وَ لِلَّهِ ما فِيالسَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ زعمتالفلاسفة أنه إنما قدم ذكر ما في السمواتعلى ذكر ما في الأرض لأن الأحوال السماويةأسباب للأحوال الأرضية، فقدم السبب علىالمسبب، و هذا يدل على أن جميع الأحوالالأرضية مستندة إلى الأحوال السماوية، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلقاللّه و تكوينه فيكون الجبر لازماً أيضاًمن هذا الوجه.
المسألة الخامسة:
قال تعالى: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِوَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِتُرْجَعُ الْأُمُورُ فأعاد ذكر اللّه فيأول الآيتين و الغرض منه تأكيد التعظيم، والمقصود أن منه مبدأ المخلوقات و إليهمعادهم، فقوله وَ لِلَّهِ ما فِيالسَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إشارةإلى أنه سبحانه هو الأول و قوله وَ إِلَىاللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ إشارة إلىأنه هو الآخر، و ذلك يدل إحاطة حكمه وتصرفه و تدبيره بأولهم و آخرهم، و أنالأسباب منتسبة إليه و أن الحاجات منقطعةعنده.
المسألة السادسة:
كلمة (إلى) في قوله وَ إِلَى اللَّهِتُرْجَعُ الْأُمُورُ لا تدل على كونهتعالى في مكان وجهة، بل المراد أن رجوعالخلق إلى موضع لا ينفذ فيه حكم أحد إلاحكمه و لا يجري فيه قضاء أحد إلا قضاؤه.
[سورة آلعمران (3): الآيات 110 الى 111]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْلِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِوَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَأَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْيَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَ إِنْيُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)في النظم وجهانالأول: أنه تعالى لما أمرالمؤمنين ببعض الأشياء و نهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب فيالتمرد و العصيان، و ذكر عقيبه ثوابالمطيعين و عقاب الكافرين، كان الغرض منكل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين علىالانقياد و الطاعة و منعهم عن التمرد والمعصية، ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخريقتضي حمل المؤمنين على الانقياد و الطاعةفقال كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ و المعنىأنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا علىأنفسكم هذه الفضيلة، و أن لا تزيلوا عنأنفسكم هذه الخصلة المحمودة، و أن تكونوامنقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم منالتكاليفالثاني: أن اللّه تعالى لما ذكركمال حال الأشقياء و هو قوله فَأَمَّاالَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آلعمران: 106] و كمال حال السعداء و هو قوله وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْوُجُوهُهُمْ [آل عمران: 107] نبه على ما هوالسبب لوعيد الأشقياء بقوله وَ مَااللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ[آل عمران: 108] يعني أنهم إنما استحقوا ذلكبأفعالهم القبيحة، ثم نبه في هذه الآيةعلى ما هو السبب لوعد السعداء بقولهكُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْلِلنَّاسِ أي تلك السعادات و الكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهمكانوا في الدنياخَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
لفظة (كان) قد تكون تامة و ناقصة و زائدةعلى ما هو مشروح في النحو و اختلف المفسرونفي قوله كُنْتُمْ على وجوهالأول: أن (كان)ههنا تامة بمعنى الوقوع و الحدوث و هو لايحتاج إلى خبر، و المعنى: حدثتم خير أمة ووجدتم و خلقتم خير أمة، و يكون قوله خَيْرَأُمَّةٍ بمعنى الحال و هذا قول جمع منالمفسرين الثاني: أن (كان) ههنا ناقصة و فيهسؤال: و هو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفينبهذه الصفة و أنهم ما بقوا الآن عليها.