اعلم أن قولنا: ثم، و هناك، و هنالك،يستعمل في المكان، و لفظة: عند، و حينيستعملان في الزمان، قال تعالى:فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُواصاغِرِينَ [الأعراف: 119] و هو إشارة إلىالمكان الذي كانوا فيه، و قال تعالى: إِذاأُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاًمُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً[الفرقان: 13] أي في ذلك المكان الضيق، ثم قديستعمل لفظة هُنالِكَ في الزمان أيضاً،قال تعالى: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِالْحَقِّ [الكهف: 44] فهذا إشارة إلى الحال والزمان.إذا عرفت هذا فنقول: قوله هُنالِكَ دَعازَكَرِيَّا رَبَّهُ إن حملناه على المكانفهو جائز، أي في ذلك المكان الذي كانقاعداً فيه عند مريم عليها السلام، و شاهدتلك الكرامات دعا ربه، و إن حملناه علىالزمان فهو أيضاً جائز، يعني في ذلك الوقتدعا ربه.
المسألة الثانية:
اعلم أن قوله هُنالِكَ دَعا يقتضي أنه دعابهذا الدعاء عند أمر عرفه في ذلك الوقت لهتعلق بهذا الدعاء، و قد اختلفوا فيه، والجمهور الأعظم من العلماء المحققين والمفسرين قالوا: هو أن زكريا عليه السلامرأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء، ومن فاكهة الشتاء في الصيف، فلما رأى خوارقالعادات عندها، طمع في أن يخرقها اللّهتعالى في حقه أيضاً فيرزقه الولد منالزوجة الشيخة العاقر.و القول الثاني: و هو قول المعتزلة الذينينكرون كرامات الأولياء، و إرهاصاتالأنبياء قالوا: إن زكريا عليه السلام لمارأى آثار الصلاح و العفاف و التقوى مجتمعةفي حق مريم عليها السلام اشتهى الولد وتمناه فدعا عند ذلك، و اعلم أن القول الأولأولى، و ذلك لأن حصول الزهد و العفاف والسيرة المرضية لا يدل على انخراقالعادات، فرؤية ذلك لا يحمل الإنسان علىطلب ما يخرق العادة، و أما رؤية ما يخرقالعادة قد يطمعه في أن يطلب أيضاً فعلًاخارقاً للعادة و معلوم أن حدوث الولد منالشيخ الهرم، و الزوجة العاقر من خوارقالعادات، فكان حمل الكلام على هذا الوجهأولى.فإن قيل: إن قلتم إن زكريا عليه السلام ماكان يعلم قدرة اللّه تعالى على خرقالعادات إلا عندما شاهد تلك الكرامات عندمريم عليها السلام كان في هذا نسبة الشك فيقدرة اللّه تعالى إلى زكريا عليه السلام.فإن قلنا: إنه كان عالماً بقدرة اللّه علىذلك لمن تكن مشاهدة تلك الأشياء سبباًلزيادة علمه بقدرة اللّه تعالى، فلم يكنلمشاهدة تلك الكرامات أثر في ذلك، فلايبقى لقوله هنالك أثر.و الجواب: أنه كان قبل ذلك عالماًبالجواز، فأما أنه هل يقع أم لا فلم يكنعالماً به، فلما شاهد علم أنه إذا وقعكرامة لولي، فبأن يجوز وقوع معجزة لنبيكان أولى، فلا جرم قوي طمعه عند مشاهدة تلكالكرامات.
المسألة الثالثة:
إن دعاء الأنبياء و الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلا بعد الإذن، لاحتمال أنلا تكون الإجابة مصلحة، فحينئذ تصير دعوتهمردودة، و ذلك نقصان في منصب الأنبياءعليهم الصلاة و السلام، هكذا قالهالمتكلمون، و عندي فيه بحث، و ذلك لأنهتعالى لما أذن في الدعاء مطلقاً، و بين أنهتارة يجيب و أخرى لا يجيب، فللرسول أن يدعوكلما شاء و أراد مما لا يكون معصية، ثم إنهتعالى تارة يجيب و أخرى لا يجيب، و ذلك لايكون نقصاناً بمنصب الأنبياء عليهمالصلاة و السلام لأنهم على باب رحمة اللّهتعالى سائلون فإن أجابهم فبقضله و إحسانهو إن لم يجبهم فمن المخلوق حتى يكون لهمنصب على باب الخالق.