أما مكرهم بعيسى عليه السلام، فهو أنهمهموا بقتله، و أما مكر اللّه تعالى بهم،ففيه وجوه الأول: مكر اللّه تعالى بهم هوأنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وذلك أن يهودا ملك اليهود، أراد قتل عيسىعليه السلام، و كان جبريل عليه السلام، لايفارقه ساعة، و هو معنى قوله وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلامأن يدخل بيتاً فيه روزنة، فلما دخلواالبيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلكالروزنة، و كان قد ألقى شبهه على غيره،فأخذ و صلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق، فرقةقالت: كان اللّه فينا فذهب، و أخرى قالت:كان ابن اللّه، و الأخرى قالت: كان عبداللّه و رسوله، فأكرمه بأن رفعه إلىالسماء، و صار لكل فرقة جمع فظهرتالكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعثاللّه تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم،و في الجملة، فالمراد من مكر اللّه بهم أنرفعه إلى السماء و ما مكنهم من إيصال الشرإليه.الوجه الثاني: أن الحواريين كانوا إثنىعشر، و كانوا مجتمعين في بيت فنافق رجلمنهم، و دل اليهود عليه، فألقى اللّه شبههعليه و رفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافق الذيكان فيهم، و قتلوه و صلبوه على ظن أنه عيسىعليه السلام، فكان ذلك هو مكر اللّه بهم.الوجه الثالث: ذكر محمد بن إسحاق أناليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسىعليه السلام، فشمسوهم و عذبوهم، فلقوامنهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم، و كان ملكاليهود من رعيته فقيل له إن رجلًا من بنيإسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسولاللّه، و أراهم إحياء الموتى و إبراءالأكمه و الأبرص فقتل، فقال: لو علمت ذلكلحلت بينه و بينهم، ثم بعث إلى الحواريين،فانتزعهم من أيديهم و سألهم عن عيسى عليهالسلام، فأخبروه فتابعهم على دينهم، وأنزل المصلوب فغيبه، و أخذ الخشبة فأكرمهاو صانها، ثم غزا بني إسرائيل و قتل منهمخلقاً عظيماً و منه ظهر أصل النصرانية فيالروم، و كان اسم هذا الملك طباريس، و هوصار نصرانياً، إلا أنه ما أظهر ذلك، ثم إنهجاء بعده ملك آخر، يقال له: مطليس، و غزابيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو منأربعين سنة، فقتل و سبى و لم يترك في مدينةبيت المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلكقريظة و النضير إلى الحجاز فهذا كله مماجازاهم اللّه تعالى على تكذيب المسيح وألهم بقتله.القول الرابع: أن اللّه تعالى سلّط عليهمملك فارس حتى قتلهم و سباهم، و هو قولهتعالى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَناأُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء: 5] فهذا هومكر اللّه تعالى بهم.القول الخامس: يحتمل أن يكون المراد أنهممكروا في إخفاء أمره، و إبطال دينه و مكراللّه بهم حيث أعلى دينه و أظهر شريعته وقهر بالذل و الدناءة أعداءه و هم اليهود واللّه أعلم.
المسألة الثالثة:
المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر، والاحتيال على اللّه تعالى محال فصار لفظالمكر في حقه من المتشابهات و ذكروا فيتأويله وجوهاًأحدها: أنه تعالى سمى جزاءالمكر بالمكر، كقوله وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍسَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] و سمى جزاءالمخادعة بالمخادعة، و جزاء الاستهزاءبالاستهزاءو الثاني: أن معاملة اللّه معهمكانت شبيهة بالمكر فسمي بذلكالثالث: أنهذا اللفظ ليس من المتشابهات، لأنه عبارةعن التدبير المحكم الكامل ثم اختص فيالعرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير،و ذلك في حق اللّه تعالى غير ممتنع و اللّهأعلم.