و الجواب عنه: أن قوله (كان) عبارة عن وجودالشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، ولا يدل ذلك على انقطاع طارىء بدليل قولهاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَغَفَّاراً [نوح: 10] قوله وَ كانَ اللَّهُغَفُوراً رَحِيماً [الفتح: 14] إذا ثبت هذافنقول: للمفسرين على هذا التقديرأقوالأحدها: كنتم في علم اللّه خير أمةوثانيها: كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكممذكورين بأنكم خير أمة و هو كقولهأَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُبَيْنَهُمْ [الفتح: 29] إلى قوله ذلِكَمَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ [الفتح: 29]فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف و نهيهمعن المنكرو ثالثها:
كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خيرأمةو رابعها: كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجتللناسو خامسها: قال أبو مسلم قولهكُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تابع لقوله وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْوُجُوهُهُمْ [آل عمران: 107] و التقدير: أنهيقال لهم عند الخلود في الجنة: كنتم فيدنياكم خير أمة فاستحقيتم ما أنتم فيه منالرحمة و بياض الوجه بسببه، و يكون ما عرضبين أول القصة و آخرها كما لا يزال يعرض فيالقرآن من مثلهو سادسها: قال بعضهم: لوشاء اللّه تعالى لقال (أنتم) و كان هذاالتشريف حاصلًا لكلنا و لكن قوله كُنْتُمْمخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول صلّىالله عليه وسلّم و هم السابقون الأولون، ومن صنع مثل ما صنعواوسابعها: كنتم مذ آمنتمخير أمة تنبيهاً على أنهم كانوا موصوفينبهذه الصفة مذكانوا.
الاحتمال الثالث: أن يقال (كان) ههنازائدة، و قال بعضهم قوله كُنْتُمْ خَيْرَأُمَّةٍ هو كقوله وَ اذْكُرُوا إِذْكُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ[الأعراف: 86] و قال في موضع آخر وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌمُسْتَضْعَفُونَ [الأنفال: 26] و إضمار كانو إظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة: قال ابن الأنباري:هذا القول ظاهر الاختلال، لأن (كان) تلغىمتوسطة و مؤخرة، و لا تلغى متقدمة، تقولالعرب: عبد اللّه كان قائم، و عبد اللّهقائم كان على أن كان ملغاة، و لا يقولون:كان عبد اللّه قائم على إلغائها، لأنسبيلهم أن يبدؤا بما تنصرف العناية إليه،و الملغى لا يكون في محل العناية، و أيضاًلا يجوز إلغاء الكون في الآية لانتصابخبره، و إذا عمل الكون في الخبر فنصبه لميكن ملغى.
الاحتمال الرابع: أن تكون (كان) بمعنى صار،فقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ معناهصرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروفو تنهون عن المنكر، أي صرتم خير أمة بسببكونكم آمرين بالمعروف و ناهين عن المنكر ومؤمنين باللّه.
ثم قال: وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِلَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني كما أنكماكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال،فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضاً صفةالخيرية و اللّه أعلم.
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن إجماعالأمة حجة، و تقريره من وجهينالأول: قولهتعالى:
وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌيَهْدُونَ بِالْحَقِّ [الأعراف: 159] ثم قالفي هذه الآية كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍفوجب بحكم هذه الآية أن تكون هذه الآيةأفضل من أولئك الذين يهدون بالحق من قومموسى، و إذا كان هؤلاء أفضل منهم وجب أنتكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق إذ لوجاز في هذه الآية أن تحكم بما ليس بحق لامتنع كون هذه الأمة أفضل من الأمة التيتهدي بالحق، لأن المبطل يمتنع أن يكونخيراً من المحق، فثبت أن هذه الأمة لا تحكمإلا بالحق، و إذا كان كذلك كان إجماعهمحجة.