القول الثاني: أن يكون المراد من الملك،ما يسمى ملكاً في العرف، و هو عبارة عنمجموع أشياءأحدها:
تكثير المال و الجاه، أما تكثير المالفيدخل فيه ملك الصامت و الناطق و الدور والضياع، و الحرث، و النسل، و أما تكثيرالجاه فهو أن يكون مهيبا عند الناس، مقبولالقول، مطاعا في الخلقو الثاني: أن يكونبحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته، و تحتأمره و نهيهو الثالث: أن يكون بحيث لونازعه في ملكه أحد، قدر على قهر ذلكالمنازع، و على غلبته، و معلوم أن كل ذلكلا يحصل إلا من اللّه تعالى، أما تكثيرالمال فقد نرى جمعاً في غاية الكياسة لايحصل لهم مع الكد الشديد، و العناء العظيمقليل من المال، و نرى الأبله الغافل قديحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته، وأما الجاه فالأمر أظهر، فإنا رأينا كثيراًمن الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجلالجاه، و كانوا كل يوم أكثر حقارة و مهانةفي أعين الرعية، و قد يكون على العكس منذلك و هو أن يكون الإنسان معظماً فيالعقائد مهيباً في القلوب، ينقاد لهالصغير و الكبير، و يتواضع له القاصي والداني، و أما القسم الثاني و هو كونه واجبالطاعة، فمعلوم أن هذا تشريف يشرف اللّهتعالى به بعض عباده، و أما القسم الثالث، وهو حصول النصرة و الظفر فمعلوم أن ذلك ممالا يحصل إلا من اللّه تعالى، فكم شاهدنا منفئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه، وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكرهاللّه تعالى من قوله تُؤْتِي الْمُلْكَمَنْ تَشاءُ.
و اعلم أن للمعتزلة ههنا بحثا قال الكعبيقوله تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ليسعلى سبيل المختارية، و لكن بالاستحقاقفيؤتيه من يقوم به، و لا ينزعه إلا ممن فسقعن أمر ربه و يدل عليه قوله لا يَنالُعَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] و قالفي حق العبد الصالح إِنَّ اللَّهَاصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةًفِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ [البقرة: 247]فجعله سبباً للملك، و قال الجبائي: هذاالحكم مختص بملوك العدل، فأما ملوك الظلمفلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء اللّه، وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء اللّه، و قدألزمهم أن لا يتملكوه، و منعهم من ذلك فصحبما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصونبأن اللّه تعالى آتاهم ذلك الملك، فأماالظالمون فلا، قالوا: و نظير هذا ما قلناهفي الرزق أنه لا يدخل تحته الحرام الذيزجره اللّه عن الانتفاع به، و أمره بأنيرده على مالكه فكذا ههنا، قالوا: و أماالنزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك منالملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقدينزع الملك عن الملوك الظالمين و نزعالملك يكون بوجوه: منها بالموت، و إزالةالعقل، و إزالة القوى، و القدر و الحواس، ومنها بورود الهلاك و التلف عن الأموال، ومنها أن يأمر اللّه تعالى المحق بأن يسلبالملك الذي في يد المتغلب المبطل و يؤتيهالقوة و النصرة، فإذا حاربه المحق و قهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب و النزعإليه تعالى، لأنه وقع عن أمره، و على هذاالوجه نزع اللّه تعالى ملك فارس على يدالرسول، هذا جملة كلام المعتزلة في هذاالباب.
و اعلم أن هذا الموضع مقام بحث مهم و ذلكلأن حصول الملك للظالم، إما أن يقال: إنهوقع لا عن فاعل و إنما حصل بفعل ذلكالمتغلب، أو إنما حصل بالأسباب الربانية،و الأول: نفي للصانع و الثاني: باطل لأن كلأحد يريد تحصيل الملك و الدولة لنفسه، و لايتيسر له ألبتة فلم يبق إلا أن يقال بأنملك الظالمين إنما حصل بإيتاء اللّهتعالى، و هذا الكلام ظاهر و مما يؤكد ذلكأن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس، وتميل إليه القلوب، و يكون النصر قرينا له والظفر جليساً معه فأينما توجه حصل مقصوده،و قد يكون على الضد من ذلك، و من تأمل فيكيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأنذلك ليس إلا بتقدير اللّه تعالى، و لذلكقال حكيم الشعراء: