منها إلى مرتبة أخرى و هي أن يقول:سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إما في الدنيا إن اقتضاهالتقدير، و إما في الآخرة و هي أولى و أفضل.
أن يقول: إِنَّا إِلَىاللَّهِ راغِبُونَ فنحن لا نطلب منالإيمان و الطاعة أخذ الأموال و الفوزبالمناصب في الدنيا، و إنما المراد إمااكتساب سعادات الآخرة. و إما الاستغراق فيالعبودية على ما دل لفظ الآية عليه فإنهقال: إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ و لميقل: إنا إلى ثواب اللّه راغبون. و نقل أنعيسى عليه السلام مر بقوم يذكرون اللّهتعالى فقال: ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا:الخوف من عقاب اللّه، فقال: أصبتم ثم مرعلى قوم آخرين يذكرون اللّه، فقال: ما الذييحملكم عليه، فقالوا: الرغبة في الثواب،فقال: أصبتم، ثم مر على قوم ثالث مشتغلينبالذكر فسألهم فقالوا: لا نذكره للخوف منالعقاب، و لا للرغبة في الثواب، بل لإظهارذلة العبودية، و عزة الربوبية و تشريفالقلب بمعرفته، و تشريف اللسبان بالألفاظالدالة على صفات قدسه و عزته.
فقال: أنتم المحقون المحققون.
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْهاوَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِيالرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِيسَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِفَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُعَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
اعلم أن المنافقين لما لمزوا الرسول صلّىالله عليه وسلّم فى الصدقات، بين لهم أنمصرف الصدقات هؤلاء، و لا تعلق لى بها، ولا آخذ لنفسى نصيبا منها، فلم يبق لهم طعنفى الرسول بسبب أخذ الصدقات.
و ههنا مقامات:
بيان الحكمة فى أخذ القليلمن أموال الأغنياء، و صرفها إلى المحتاجينمن الناس.
بيان حال هؤلاء الأصنافالثمانية المذكورين فى هذه الآية.
أما المقام الأول: فنقول: الحكمة فى إيجابالزكاة أمور، بعضها مصالح عائدة إلى معطىالزكاة. و بعضها عائدة إلى آخذ الزكاة.
أما القسم الأول: فهو أمور:
أن المال محبوب بالطبع، و السبب فيه أنالقدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها،و لعينها لا لغيرها لأنه لا يمكن أن يقال:إن كل شىء فهو محبوب لمعنى آخر و إلالزم،إما التسلسل و إما الدور، و هما محالان،فوجب الانتهاء في الأشياء المحبوبة إلى مايكون محبوبا لذاته.
و الكمال محبوب لذاته، و النقصان مكروهلذاته فلما كانت القدرة صفة كمال، و صفةالكمال محبوبة لذاتها، كانت القدرةمحبوبة لذاتها. و المال سبب لحصول تلكالقدرة، و لكمالها في حق البشر فكان أقوىأسباب القدرة في حق البشر هو المال، و الذييتوقف عليه المحبوب فهو محبوب، فكان المالمحبوبا، فهذا هو السبب في كونه محبوبا إلاأن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حباللّه و عن التأهب للآخرة فاقتضت حكمةالشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منهمن يده، ليصير ذلك الإخراج كسرا من شدةالميل إلى المال، و منعا من انصراف النفسبالكلية إليها و تنبيها لها على أن سعادةالإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المالو إنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاةاللّه تعالى فإيجاب الزكاة علاج صالحمتعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب،فاللّه سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة. وهو المراد من قوله: خُذْ مِنْأَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] أي تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا.