يبني البناء متباعدا عن الماء على الأرضالصلبة لئلا ينهدم، و اللّه تعالى بنىالسموات و الأرض على الماء ليعرف العقلاءقدرته و كمال جلالته، و الاستواء علىالعرش هو الاستعلاء عليه بالقهر، و الدليلعليه قوله تعالى:
وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَلِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّتَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَااسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزخرف: 12، 13] قالأبو مسلم: فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذيذكرناه فنقول: وجب حمل اللفظ عليه، و لايجوز حمله على العرش الذي في السماء، والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجودالصانع تعالى، يجب أن يحصل بشيء معلوممشاهد، و العرش الذي في السماء ليس كذلك، وأما أجرام السموات و الأرضين فهي مشاهدةمحسوسة، فكان الاستدلال بأحوالها علىوجود الصانع الحكيم جائزا صوابا حسنا. ثمقال: و مما يؤكد ذلك أن قوله تعالى: خَلَقَالسَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِأَيَّامٍ إشارة إلى تخليق ذواتها، و قوله:ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يكونإشارة إلى تسطيحها و تشكيلها بالأشكالالموافقة لمصالحها، و على هذا الوجه تصيرهذه الآية موافقة لقوله سبحانه و تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُبَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها[النازعات:
27، 28] فذكر أولا أنه بناها، ثم ذكر ثانياأنه رفع سمكها فسواها و كذلك ههنا ذكربقوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَأنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله: ثُمَّاسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أنه قصد إلىتعريشها و تسطيحها و تشكيلها بالأشكالالموافقة لها.
و هو القول المشهورلجمهور المفسرين: أن المراد من العرشالمذكور في هذه الآية:
الجسم العظيم الذي في السماء، و هؤلاءقالوا إن قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوىعَلَى الْعَرْشِ لا يمكن أن يكون معناهأنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرىوَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: 7] وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليقالسموات و الأرضين بل يجب تفسير هذه الآيةبوجوه أخر و هو أن يكون المراد: ثم يدبرالأمر و هو مستو على العرش.
و القول الثالث: أن المراد من العرشالملك، يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله:ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ المرادأنه تعالى لما خلق السموات و الأرض واستدارت الأفلاك و الكواكب، و جعل بسببدورانها الفصول الأربعة و الأحوالالمختلفة من المعادن و النبات والحيوانات، ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذهالمخلوقات و الكائنات و الحاصل أن العرشعبارة عن الملك، و ملك اللّه تعالى عبارةعن وجود مخلوقاته، و وجود مخلوقاته إنماحصل بعد تخليق السموات و الأرض، لا جرم صحإدخال حرف (ثم) الذي يفيد التراخي علىالاستواء على العرش و اللّه أعلم بمراده.
معناه أنه يقضي و يقدر على حسب مقتضىالحكمة و يفعل ما يفعله المصيب في أفعاله،الناظر في أدبار الأمور و عواقبها، كي لايدخل في الوجود ما لا ينبغي. و المراد منالْأَمْرَ الشأن يعني يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات و الأرض.
فإن قيل: ما موقع هذه الجملة؟
قلنا: قد دل بكونه خالقا للسموات و الأرضفي ستة أيام و بكونه مستويا على العرش، علىنهاية العظمة و غاية الجلالة ثم أتبعهابهذه الجملة ليدل على أنه لا يحدث فيالعالم العلوي و لا في العالم السفلي أمرمن الأمور و لا حادث من الحوادث، إلابتقديره و تدبيره و قضائه و حكمه، فيصيرذلك دليلا على نهاية القدرة