و هو المشهور أن المراد منهأن تدبيره للأشياء و صنعه لها، لا يكونبشفاعة شفيع و تدبير مدبرو لا يستجرىء أحد أن يشفع إليه في شيءإلا بعد إذنه، لأنه تعالى أعلم بموضعالحكمة و الصواب، فلا يجوز لهم أن يسألوهما لا يعلمون أنه صواب و صلاح.فإن قيل: كيف يليق ذكر الشفيع بصفة مبدئيةالخلق، و إنما يليق ذكره بأحوال القيامة؟و الجواب من وجوه:
الوجه الأول:
ما ذكره الزجاج: و هو أنالكفار الذين كانوا مخاطبين بهذه الآيةكانوا يقولون: إن الأصنام شفعاؤنا عنداللّه، فالمراد منه الرد عليهم في هذاالقول و هو كقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُالرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لايَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُالرَّحْمنُ [النبأ: 38].
و الوجه الثاني:
و هو يمكن أن يقال إنهتعالى لما بين كونه إلها للعالم مستقلابالتصرف فيه من غير شريك و لا منازع، بينأمر المبدأ بقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وبين حال المعاد بقوله: ما مِنْ شَفِيعٍإِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ و الوجهالثالث: يمكن أيضا أن يقال إنه تعالى وضعتدبير الأمور في أول خلق العالم على أحسنالوجوه و أقربها من رعاية المصالح، مع أنهما كان هناك شفيع يشفع في طلب تحصيلالمصالح، فدل هذا على أن إله العالم ناظرلعباده محسن إليهم مريد للخير و الرأفةبهم، و لا حاجة في كونه سبحانه كذلك إلىحضور شفيع يشفع فيه.
و القول الثاني:
في تفسير هذا الشفيع ماذكره أبو مسلم الأصفهاني،فقال: الشفيع ههنا هو الثاني، و هو مأخوذمن الشفع الذي يخالف الوتر، كما يقالالزوج و الفرد، فمعنى الآية خلق السموات والأرض وحده و لا حي معه و لا شريك يعينه، ثمخلق الملائكة و الجن و البشر، و هو المرادمن قوله: إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أيلم يحدث أحد و لم يدخل في الوجود، إلا منبعد أن قال له: كن، حتى كان و حصل.و اعلم أنه تعالى لما بين هذه الدلائل وشرح هذه الأحوال، ختمها بعد ذلك بقوله:ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُمبينا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا له، ومنبها على أنه سبحانه هو المستحق لجميعالعبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعمالتي ذكرها و وصفها.ثم قال بعده: أَ فَلا تَذَكَّرُونَدالا بذلك على وجوب التفكر في تلك الدلائلالقاهرة الباهرة، و ذلك يدل على أن التفكرفي مخلوقات اللّه تعالى و الاستدلال بهاعلى جلالته و عزته و عظمته، أعلى المراتب وأكمل الدرجات.