المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذهالآية، على أن أفعال العباد مخلوقة للَّهتعالى،
قالوا: الآية دالة على أن قلوب أولئكالكفار بالنسبة إلى الإيمان كالأصمبالنسبة إلى استماع الكلام، و كالأعمىبالنسبة إلى إبصار الأشياء، و كما أن هذاممتنع فكذلك ما نحن فيه. قالوا: و الذي يقويذلك أن حصول العداوة القوية الشديدة، وكذلك حصول المحبة الشديدة في القلب ليسباختيار الإنسان، لأن عند حصول هذهالعداوة الشديدة يجد وجدانا ضروريا أنالقلب يصير كالأصم و الأعمى في استماعكلام العدو و في مطالعة أفعاله الحسنة، وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل المطلوب، وأيضا لما حكم اللَّه تعالى عليها حكماجازما بعدم الإيمان، فحينئذ يلزم من حصولالإيمان انقلاب علمه جهلا و خبره الصدقكذبا و ذلك محال. و أما المعتزلة: فقداحتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى: إِنَّاللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْيَظْلِمُونَ وجه الاستدلال به، أنه يدلعلى أنه تعالى ما ألجأ أحدا إلى هذهالقبائح و المنكرات، و لكنهم باختيارأنفسهم يقدمون عليها و يباشرونها.أجاب الواحدي عنه فقال: إنه تعالى إنمانفى الظلم عن نفسه، لأنه يتصرف في ملكنفسه، و من كان كذلك لم يكن ظالما، و إنماقال: وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْيَظْلِمُونَ لأن الفعل منسوب إليهم بسببالكسب.
[سورة يونس (10): الآيات 45 الى 46]
وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْيَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِيَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَ إِمَّانُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْأَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنامَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌعَلى ما يَفْعَلُونَ (46)اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الكفار بقلةالإصغاء و ترك التدبر أتبعه بالوعيد فقال:و يوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة مننهار و فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حفص عن عاصميَحْشُرُهُمْ بالياء
و الباقون بالنون.
المسألة الثانية: قوله: كَأَنْ لَمْيَلْبَثُوا في موضع الحال،
أي مشابهين من لم يلبث إلا ساعة من النهار.و قوله: يَتَعارَفُونَ يجوز أن يكونمتعلقا بيوم نحشرهم، و يجوز أن يكون حالابعد حال.
المسألة الثالثة: كَأَنْ هذه هي المحففةمن الثقيلة
التقدير: كأنهم لم يلبثوا، فخففت كقوله: وكأن قد.
المسألة الرابعة: قيل: كأن لم يلبثوا إلاساعة من النهار و قيل في قبورهم،
و القرآن وارد بهذين الوجهين قال تعالى:كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَسِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْبَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون: 112- 113] قالالقاضي: و الوجه الأول أولى لوجهين:أحدهما: أن حال المؤمنين كحال الكافرين فيأنهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلىوقت الحشر، فيجب أن يحمل ذلك على أمر يختصبالكفار، و هو أنهم لما لم ينتفعوا بعمرهماستقلوه، و المؤمن لما انتفع بعمره فإنهلا يستقله. الثاني: أنه قال: يَتَعارَفُونَبَيْنَهُمْ لأن التعارف إنما يضاف إلى حالالحياة لا إلى حال الممات.
المسألة الخامسة: ذكروا في سبب هذاالاستقلال وجوها:
الأول: قال أبو مسلم: لما ضيعوا أعمارهم فيطلب الدنيا و الحرص على لذاتها لم ينتفعوابعمرهم ألبتة، فكان وجود ذلك العمركالعدم، فلهذا السبب استقلوه و نظيره قولهتعالى: وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَالْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة: 96]الثاني: قال الأصم: قل