قوله: وَ أَنْ أَقِمْوَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً و فيه مسائل:
المسألة الأولى: الواو في قوله: وَ أَنْأَقِمْ وَجْهَكَ حرف عطف
و في المعطوف عليه وجهان: الأول: أن قوله:وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ قائم مقام قولهو قيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ الثاني:أن قوله: وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ قائممقام قوله: وَ أُمِرْتُ بإقامة الوجه،فصار التقدير و أمرت بأن أكون من المؤمنينو بإقامة الوجه للدين حنيفا.
المسألة الثانية: إقامة الوجه كناية عنتوجيه العقل بالكلية إلى طلب الدين،
لأن من يريد أن ينظر إلى شيء نظرابالاستقصاء، فإنه يقيم وجهه في مقابلتهبحيث لا يصرفه عنه لا بالقليل و لابالكثير، لأنه لو صرفه عنه، و لو بالقليلفقد بطلت تلك المقابلة، و إذا بطلت تلكالمقابلة، فقد اختل الأبصار، فلهذا السببحسن جعل إقامة الوجه للدين كناية عن صرفالعقل بالكلية إلى طلب الدين، و قوله:حَنِيفاً أي مائلا إليه ميلا كليا معرضاعما سواه إعراضا كليا، و حاصل هذا الكلامهو الإخلاص التام، و ترك الالتفات إلىغيره، فقوله أولا:وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَالْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى تحصيل أصلالإيمان، و قوله: وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَلِلدِّينِ حَنِيفاً إشارة إلى الاستغراقفي نور الإيمان و الإعراض بالكلية عماسواه.
و القيد الخامس:
قوله: وَ لا تَكُونَنَّمِنَ الْمُشْرِكِينَ.و اعلم أنه لا يمكن أن يكون هذا نهيا عنعبادة الأوثان، لأن ذلك صار مذكورا بقولهتعالى في هذه الآية:فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَمِنْ دُونِ اللَّهِ فوجب حمل هذا الكلامعلى فائدة زائدة و هو أن من عرف مولاه، فلوالتفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركا، وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشركالخفي.
و القيد السادس:
قوله تعالى: وَ لا تَدْعُمِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَو الممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق، و إذا كان كذلك فما سوىالحق فلا وجود له إلا إيجاد الحق، و علىهذا التقدير فلا نافع إلا الحق و لا ضارإلا الحق، فكل شيء هالك إلا وجهه و إذاكان كذلك، فلا حكم إلا للَّه و لا رجوع فيالدارين إلا إلى اللَّه.ثم قال في آخر الآية: فَإِنْ فَعَلْتَفَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَيعني لو اشتغلت بطلب المنفعة و المضرة منغير اللَّه فأنت من الظالمين، لأن الظلمعبارة عن وضع الشيء في غير موضعه، فإذاكان ما سوى الحق معزولا عن التصرف، كانتإضافة التصرف إلى ما سوى الحق و ضعاللشيء في غير موضعه فيكون ظلما.فإن قيل: فطلب الشبع من الأكل و الري منالشرب هل يقدح في ذلك الإخلاص؟قلنا: لا لأن وجود الخبز و صفاته كلهابإيجاد اللَّه و تكوينه، و طلب الانتفاعبشيء خلقه اللَّه للانتفاع به لا يكونمنافيا للرجوع بالكلية إلى اللَّه، إلا أنشرط هذا الإخلاص أن لا يقع بصر عقله علىشيء من هذه الموجودات إلا و يشاهد بعينعقله أنها معدومة بذواتها و موجودة بإيجادالحق و هالكة بأنفسها و باقية بإيقاءالحق، فحينئذ يرى ما سوى الحق عدما محضابحسب أنفسها و يرى نور وجوده و فيض إحسانهعاليا على الكل.