المسألة الثالثة: قوله: مِنْ مِثْقالِذَرَّةٍ أي وزن ذرة،
و مثقال الشيء ما يساويه في الثقل، والمعنى. ما يساوي ذرة و الذر صغار النملواحدها ذرة، و هي تكون خفيفة الوزن جدا، وقوله: فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِفالمعنى ظاهر.فإن قيل: لم قدم اللَّه ذكر الأرض ههنا علىذكر السماء مع أنه تعالى قال في سورة سبأ:عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُمِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لافِي الْأَرْضِ؟ [سبأ: 3].قلنا: حق السماء أن تقدم على الأرض إلا أنهتعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته علىأحوال أهل الأرض و أعمالهم، ثم وصل بذلكقوله لا يعزب عنه، ناسب أن تقدم الأرض علىالسماء في هذا الموضع.ثم قال: وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لاأَكْبَرَ و فيه قراءتان قرأ حمزة و لا أصغرو لا أكبر بالرفع فيهما، و الباقون بالنصب.و اعلم أن قوله: وَ ما يَعْزُبُ عَنْرَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ تقديره وما يعزب عن ربك مثقال ذرة فلفظ مِثْقالِعند دخول كلمة (من) عليه مجرور بحسبالظاهر، و لكنه مرفوع في المعنى، فالمعطوفعليه إن عطف على الظاهر كان مجرورا إلا أنلفظ أصغر و أكبر غير منصرف، فكان مفتوحا وإن عطف على المحل، وجب كونه مرفوعا، ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل و عاقل، وكذا قوله: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ[الأعراف:59] و غيره و قال الشاعر:فلسنا بالجبال و لا الحديداهذا ما ذكره النحويون، قال صاحب «الكشاف»:لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية و مايعزب عنه شيء في الأرض و لا في السماء إلافي كتاب: و خينئذ يلزم أن يكون الشيء الذيفي الكتاب خارجا عن علم اللَّه تعالى و أنهباطل.و أجاب بعض المحققين عنه بوجهين:
الوجه الأول:
أنا بينا أن العزوب عبارة عنمطلق البعد.و إذا ثبت هذا فنقول: الأشياء المخلوقةعلى قسمين: قسم أوجده اللَّه تعالى ابتداءمن غير و اسطة كالملائكة و السموات والأرض، و قسم آخر أوجده اللَّه بواسطةالقسم الأول، مثل: الحوادث الحادثة فيعالم الكون و الفساد، و لا شك أن هذا القسمالثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجودفقوله: وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْمِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِيالسَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أيلا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرضو لا في السماء إلا و هو في كتاب مبين و هوكتاب كتبه اللَّه تعالى و أثبت صور تلكالمعلومات فيه، و متى كان الأمر كذلك فقدكان عالما بها محيطا بأحوالها، و الغرض