و اعلم أن الاستدلال على وجود الصانعبالخلق أولا، ثم بالهداية ثانيا، عادةمطردة في القرآن، فحكى تعالى عن الخليلعليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: الَّذِيخَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] وعن موسى عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال:رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍخَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] و أمر محمداصلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال: سَبِّحِاسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَفَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى[الأعلى: 1- 3] و هو في الحقيقة دليل شريف،لأن الإنسان له جسد و له روح، فالاستدلالعلى وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية فههناأيضا لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى،و هو قوله: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَثُمَّ يُعِيدُهُ [النمل: 64] أتبعه بدليلالهداية في هذه الآية.و اعلم أن المقصود من خلق الجسد حصولالهداية للروح، كما قال تعالى: وَ اللَّهُأَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِأُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَوَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْتَشْكُرُونَ [النحل: 78] و هذا كالتصريحبأنه تعالى إنما خلق الجسد، و إنما أعطىالحواس لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم، و أيضا فالأحوال الجسدية خسيسةيرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء منالطعوم أو لمس شيء من الكيفياتالملموسة، أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية، فإنها كمالات باقية أبدالآباد مصونة عن الكون و الفساد، فعلمناأن الخلق تبع للهداية، و المقصود الأشرفالأعلى حصول الهداية.إذا ثبت هذا فنقول: العقول مضطربة و الحقصعب، و الأفكار مختلطة، و لم يسلم من الغلطإلا الأقلون، فوجب أن الهداية و إدراكالحق لا يكون إلا بإعانة اللَّه سبحانه وتعالى و هدايته و إرشاده، و لصعوبة هذاالأمر قال الكليم عليه السلام بعد استماعالكلام القديم رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي[طه: 25] و كل الخلق يطلبون الهداية ويحترزون عن الضلالة، مع أن الأكثرين وقعوافي الضلالة، و كل ذلك يدل على أن حصولالهداية و العلم و المعرفة ليس إلا مناللَّه تعالى.إذا عرفت هذا فنقول: الهداية إما أن تكونعبارة عن الدعوة إلى الحق، و إما أن تكونعبارة عن تحصيل تلك المعرفة و علىالتقديرين فقد دللنا على أنها أشرفالمراتب البشرية و أعلى السعاداتالحقيقية، و دللنا على أنها ليست إلا مناللَّه تعالى. و أما الأصنام فإنها جماداتلا تأثير لها في الدعوة إلى الحق و لا فيالإرشاد إلى