أن الكلام في تفسير هذهالآية يجب أن يكون مسبوقا بمقدمات.
المقدمة الأولى:
أن العلم نور و الجهلظلمة و صريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك، ومما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلةشريفة على شخصين، فاتفق أن فهمها أحدهما وما فهمها الآخر، فإنك ترى وجه الفاهممتهللا مشرقا مضيئا، و وجه من لم يفهمعبوسا مظلما منقبضا، و لهذا السبب جرتعادة القرآن بالتعبير عن العلم و الإيمانو النور، و عن الجهل و الكفر بالظلمات.
و المقدمة الثانية:
أن الروح كاللوح، والعلوم و المعارف كالنقوش المنقوشة في ذلكاللوح. ثم ههنا دقيقة، و هي أن اللوحالجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصولبعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائرالنقوش فيه، فأما لوح الروح فخاصيته علىالضد من ذلك، فإن الروح إذا كانت خالية عننقوش المعارف و العلوم فإنه يصعب عليهتحصيل المعارف و العلوم، فإذا احتال و حصلشيء منها، كان حصول ما حصل منها معينا لهعلى سهولة تحصيل الباقي، و كلما كانالحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل،فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعا منحصول الباقي، و النقوش الروحانية يكونبعضها معينا على حصول البقية، و ذلك يدلعلى أن أحوال العالم الروحاني بالضد منأحوال العالم الجسماني.
المقدمة الثالثة:
أن الأعمال الصالحةعبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على تركالدنيا و طلب الآخرة، و الأعمال المذمومةما تكون بالضد من ذلك.إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: الإنسان إذاآمن باللَّه فقد أشرق روحه بنور هذهالمعرفة، ثم إذا واظب على الأعمال الصالحةحصلت له ملكة مستقرة في التوجه إلى الآخرةو في الإعراض عن الدنيا، و كلما كانت هذهالأحوال أكمل كان استعداد النفس لتحصيلسائر المعارف أشد، و كلما كان الاستعدادأقوى و أكمل كانت معارج المعارف أكثر وأشراقها و لمعانها أقوى، و لما كان لانهاية لمراتب المعارف و الأنوار العقلية،لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهدايةالمشار إليها بقوله تعالى: يَهْدِيهِمْرَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ.
المراد منه أنهم يكونون جالسين على سررمرفوعة في البساتين و الأنهار تجري من بينأيديهم، و نظيره قوله تعالى: قَدْ جَعَلَرَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم:24] و هي ما كانت قاعدة عليها، و لكن المعنىبين يديك، و كذا قوله: وَ هذِهِالْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي[الزخرف: 51] المعنى بين يدي فكذا ههنا.
المسألة الثالثة: الإيمان هو المعرفة والهداية المترتبة عليها أيضا من جنسالمعارف،
ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهمبل قال: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْبِإِيمانِهِمْ و ذلك يدل على أن العلمبالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة، بلالعلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعدادالتام لقبول النفس للنتيجة ثم إذا حصل هذا