المسألة الثانية: اختلف المفسرون: في أنالمخاطب بهذا الخطاب من هو؟ فقيل النبيعليه الصلاة و السلام. و قيل غيره،
أما من قال بالأول: فاختلفوا على وجوه.
الوجه الأول:
أن الخطاب مع النبي عليهالصلاة و السلام في الظاهر، و المرادغيرهكقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّاتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِالْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ[الأحزاب: 1] و كقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَلَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وكقوله:يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَقُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: 116] و منالأمثلة المشهورة: إياك أعني و اسمعي ياجاره.و الذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه: الأول:قوله تعالى في آخر السورة يا أَيُّهَاالنَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْدِينِي [يونس: 104] فبين أن المذكور في أولالآية على سبيل الزمر، هم المذكورون فيهذه الآية على سبيل التصريح. الثاني: أنالرسول لو كان شاكا في نبوة نفسه لكان شكغيره في نبوته أولى و هذا يوجب سقوطالشريعة بالكلية. و الثالث: أن بتقدير أنيكون شاكا في نبوة نفسه، فكيف يزول ذلكالشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهمفي الأكثر كفار، و إن حصل فيهم من كانمؤمنا إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما و قدتقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل، فالكل مصحف محرف، فثبت أن الحقهو أن الخطاب، و إن كان في الظاهر معالرسول صلّى الله عليه وسلّم إلا أنالمراد هو الأمة، و مثل هذا معتاد، فإنالسلطان الكبير إذا كان له أمير، و كان تحتراية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمرالرعية بأمر مخصوص، فإنه لا يوجه خطابهعليهم، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأميرالذي جعله أميرا عليهم، ليكون ذلك أقوىتأثيرا في قلوبهم.
الوجه الثاني:
أنه تعالى علم أن الرسول لميشك في ذلك،إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام،فإنه يصرح و يقول: «يا رب لا أشك و لا أطلبالحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ماأنزلته علي من الدلائل الظاهرة» و نظيرهقوله تعالى للملائكة: أَ هؤُلاءِإِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] والمقصود أن يصرحوا بالجواب الحق و يقولوا:سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْدُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَالْجِنَّ [سبأ: 41] و كما قال لعيسى عليهالسلام: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِاتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْدُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] و المقصود منهأن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلكفكذا ههنا.
الوجه الثالث:
هو أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان من البشر،و كان حصول الخواطر المشوشة و الأفكارالمضطربة في قلبه من الجائزات، و تلكالخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات، فهو تعالى أنزل هذا النوعمن التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطرهتلك الوساوس، و نظيره قوله تعالى:فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحىإِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود: 12]و أقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله:فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ فافعل كذا و كذاقضية شرطية و القضية الشرطية لا إشعارفيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع. و لابأن الجزاء وقع أو لم يقع بل ليس فيها إلابيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهيةذلك الجزاء فقط، و الدليل عليه أنك إذا قلتإن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمةبمتساويين، فهو كلام حق، لأن معناه أن كونالخمسة زوجا يستلزم كونها منقسمةبمتساويين، ثم لا يدل هذا الكلام على أنالخمسة زوج و لا على أنها منقسمةبمتساويين فكذا ههنا هذه الآية، تدل علىأنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هوفعل كذا و كذا، فأما إن هذا الشك وقع أو لميقع، فليس في الآية دلالة عليه، و الفائدةفي إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثيرالدلائل و تقويتها مما يزيد في قوة اليقينو طمأنينة النفس و سكون الصدر، و لهذاالسبب أكثر اللَّه في كتابه من تقريردلائل التوحيد و النبوة.