فهي أن تصير النفسالبالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانيةبحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصينفيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذاالعالم، و ذلك هو المراد بقوله وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ و إنما خصالمؤمنين بهذا المعنى، لأن أرواحالمعاندين لا تستضيء بأنوار أرواحالأنبياء عليهم السلام، لأن الجسم القابلللنور عن قرص الشمس هو الذي يكون و جههمقابلا لوجه الشمس، فإن لم تحصل هذهالمقابلة لم يقع ضوء الشمس عليه، فكذلك كلروح لما لم تتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياءالمطهرين، لم تنتفع بأنوارهم، و لم يصلإليها آثار تلك الأرواح المطهرة المقدسة،و كما أن الأجسام التي لا تكون مقابلة لقرصالشمس مختلفة الدرجات و المراتب في البعدعن هذه المقابلة و لا تزال تتزايد درجاتهذا البعد حتى ينتهي ذلك الجسم إلى غايةبعده عن مقابلة قرص الشمس، فلا جرم يبقىخالص الظلمة، فكذلك تتفاوت مراتب النفوسفي قبول هذه الأنوار عن أرواح الأنبياء ولا تزال تتزايد حتى تنتهي إلى النفس التيكملت ظلمتها، وعظمت شقاوتها و انتهت فيالعقائد الفاسدة، و الأخلاق الذميمة إلىأقصى الغايات، و أبعد النهايات، فالحاصلأن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلقعما لا ينبغي و هو الشريعة، و الشفاء إشارةإلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة و هو الطريقة و الهدى و هوإشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقينو هو الحقيقة، و الرحمة و هي إشارة إلىكونها بالغة في الكمال و الإشراق إلى حيثتصير مكملة للناقصين و هي النبوة، فهذهدرجات عقلية و مراتب برهانية مدلول عليهابهذه الألفاظ القرآنية لا يمكن تأخير ماتقدم ذكره و لا تقديم ما تأخر ذكره، و لمانبه اللَّه تعالى في هذه الآية على هذهالأسرار العالية الالهية قال: قُلْبِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِفَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌمِمَّا يَجْمَعُونَ و المقصود منهالإشارة إلى ما قرره حكماء الإسلام من أنالسعادات الروحانية أفضل من السعاداتالجسمانية و قد سبق في مواضع كثيرة من هذاالكتاب المبالغة في تقرير هذا المعنى فلافائدة في الإعادة انتهى.
و تقديره: بفضل اللَّه و برحمته فليفرحوا،ثم يقول مرة أخرى: فَبِذلِكَفَلْيَفْرَحُوا و التكرير للتأكيد. و أيضاقوله: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا يفيدالحصر، يعني يجب أن لا يفرح الإنسان إلابذلك. و اعلم أن هذا الكلام يدل على أمرين:أحدهما: أنه يجب أن لا يفرح الإنسان بشيءمن الأحوال الجسمانية، و يدل عليه وجوه:الأول: أن جماعة من المحققين قالوا: لامعنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفعالآلام، و المعنى العدمي لا يستحق أن يفرحبه. و الثاني: أن بتقدير أن تكون هذه اللذاتصفات ثبوتية، لكنها معنوية من وجوه: الأول:أن التضرر بآلامها أقوى من الانتفاعبلذاتها ألا ترى أن أقوى اللذات الجسمانيةلذة الوقاع، و لا شك أن الالتذاذ بها أقلمرتبة من الاستضرار بألم القولنج و سائرالآلام القوية. و الثاني: أن مداخل اللذاتالجسمانية قليلة، فإنه لا سبيل إلى تحصيلاللذات الجسمانية