المسألة الثالثة: اعلم أن كمال جود اللَّهتعالى و كمال قدرته و كمال رحمته بعبادهمعلوم،
فدعوته عبيده إلى دار السلام، تدل على أندار السلام قد حصل فيها ما لا عين رأت و لاأذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، لأن العظيمإذا استعظم شيئا و رغب فيه و بالغ في ذلكالترغيب، دل ذلك على كمال حال ذلك الشيء،لا سيما و قد ملأ اللَّه هذا الكتاب المقدسمن وصف الجنة مثل قوله: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة: 89]و نحن نذكر ههنا كلاما كليا في تقرير هذاالمطلوب، فنقول: الإنسان إنما يسعى فييومه لغده و لكل إنسان غدان، غد في الدنياو غد في الآخرة فنقول: غد الآخرة خير من غدالدنيا من وجوه أربعة: أولها: أن الإنسانقد لا يدرك غد الدنيا و بالضرورة يدرك غدالآخرة. و ثانيها: أن بتقدير أن يدرك غدالدنيا فلعله لا يمكنه أن ينتفع بما جمعه،إما لأنه يضيع منه ذلك المال أو لأنه يحصلفي بدنه مرض يمنعه من الانتفاع به. أما غدالآخرة فكلما اكتسبه الإنسان لأجل هذااليوم، فإنه لا بد و أن ينتفع به. و ثالثها:أن بتقدير أن يجد غد الدنيا و يقدر على أنينتفع بماله، إلا أن تلك المنافع مخلوطةبالمضار و المتاعب، لأن سعادات الدنيا غيرخالصة عن الآفات، بل هي ممزوجة بالبليات،و الاستقراء يدل عليه و لذلك قال عليهالسلام: «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه و لميرزق» فقيل يا رسول اللَّه و ما هو؟ قال:«سرور يوم بتمامه» و أما منافع عز الآخرةفهي خالصة عن الغموم و الهموم و الأحزانسالمة عن كل المنفرات. و رابعها: أن بتقديرأن يصل الإنسان إلى عز الدنيا و ينتفعبسببه، و كان ذلك الانتفاع خاليا عن خلطالآفات، إلا أنه لا بد و أن يكون منقطعا ومنافع الآخرة دائمة مبرأة عن الانقطاع،فثبت أن سعادات الدنيا مشوبة بهذه العيوبالأربعة، و أن سعادات الآخرة سالمة عنهافلهذا السبب كانت الجنة دار السلام.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذهالآية على أن الكفر و الإيمان بقضاءاللَّه تعالى
قالوا: إنه تعالى بين في هذه الآية أنه دعاجميع الخلق إلى دار السلام، ثم بين أنه ماهدى إلا بعضهم فهذه الهداية الخاصة يجب أنتكون مغايرة لتلك الدعوة العامة، و لا شكأيضا أن الأقدار و التمكين و إرسال الرسل وإنزال الكتب أمور عامة، فوجب أن تكون هذهالهداية الخاصة مغايرة لكل هذه الأشياء، وما ذاك إلا ما ذكرناه من أنه تعالى خصهبالعلم و المعرفة دون غيره. و اعلم أن هذهالآية مشكلة على المعتزلة و ما قدروا علىإيراد الأسئلة الكثيرة، و حاصل ما ذكرهالقاضي في و جهين: الأول: أن يكون المراد ويهدي اللَّه من يشاء إلى إجابة تلكالدعوة، بمعنى أن من أجاب الدعاء و أطاع واتقى فإن اللَّه يهديه إليها. و الثاني: أنالمراد من هذه الآية الألطاف. و أجابأصحابنا عن هذين الوجهين بحرف واحد، و هوأن عندهم أنه يجب على اللَّه فعل هذهالهداية، و ما كان واجبا لا يكون معلقابالمشيئة، و هذا معلق بالمشيئة، فامتنعحمله على ما ذكروه.
[سورة يونس (10): آية 26]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْقَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُالْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)