على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر التقيو من إهانة الفاجر الكافر، فلو قلبت القصةو عكست القضية و قربت الكافر الفاجر علىسبيل التعظيم، و طردت المؤمن التقي علىسبيل الإهانة كنت على ضد أمر اللَّهتعالى، و على عكس حكمه و كنت في هذا الحكمعلى ضد ما أمر اللَّه تعالى من إيصالالثواب إلى المحقين، و العقاب إلىالمبطلين و حينئذ أصير مستوجبا للعقابالعظيم فمن ذا الذي ينصرني من اللَّهتعالى و من الذي يخلصني من عذاب اللَّهأفلا تذكرون فتعلمون أن ذلك لا يصح ثم أكدهذا البيان بوجه ثالث فقال: وَ لا أَقُولُلَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أي كمالا أسألكم فكذلك لا أدعي أني أملك مالا ولا لي غرض في المال لا أخذا و لا دفعا، و لاأعلم الغيب حتى أصل به إلى ما أريد لنفسي ولا أتباعي و لا أقول إني ملك حتى أتعظمبذلك عليكم، بل طريقي الخضوع و التواضع ومن كان هذا شأنه و طريقه فإنه لا يستنكف عنمخالطة الفقراء و المساكين، و لا يطلبمجالسة الأمراء و السلاطين و إنما شأنهطلب الدين و سيرته مخالطة الخاضعين والخاشعين فلما كانت طريقتي توجب مخالطةالفقراء فكيف جعلتم ذلك عيبا علي، ثم إنهأكد هذا البيان بطريق رابع فقال: وَ لاأَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيأَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُخَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِيأَنْفُسِهِمْ و هذا كالدلالة على أنهمكانوا ينسبون أتباعه مع الفقر و الذلة إلىالنفاق فقال: إني لا أقول ذلك، لأنه من بابالغيب و الغيب لا يعلمه إلا اللَّه، فربماكان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم اللَّه ملكالآخرة فأكون كاذبا فيما أخبرت به، فإنيإن فعلت ذلك كنت من الظالمين لنفسي و منالظالمين لهم في وصفهم بأنهم لا خير لهم معأن اللَّه تعالى آتاهم الخير في الآخرة.
و قالوا: إن الإنسان إذا قال: أنا لا أدعيكذا و كذا، فهذا إنما يحسن إذا كان ذلكالشيء أشرف من أحوال ذلك القائل فلما كانقائل هذا القول هو نوح عليه السلام وجب أنتكون درجة الملائكة أعلى و أشرف من درجاتالأنبياء، ثم قالوا: و كيف لا يكون الأمركذلك و الملائكة داوموا على عبادة اللَّهتعالى طول الدنيا مذ خلقوا إلى أن تقومالساعة، و تمام التقرير أن الفضائلالحقيقية الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء:أولها: الاستغناء المطلق و جرت العادة فيالدنيا أن من ملك المال الكثير فإنه يوصفبكونه غنيا فقوله: وَ لا أَقُولُ لَكُمْعِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ إشارة إلى أنيلا أدعي الاستغناء المطلقو ثانيها:العلم التام و إليه الإشارة بقوله: وَ لاأَعْلَمُ الْغَيْبَ و ثالثها: القدرةالتامة الكاملة، و قد تقرر في الخواطر أنأكمل المخلوقات في القدرة و القوة همالملائكة و إليه الإشارة بقوله: وَ لاأَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ و المقصود من ذكرهذه الأمور الثلاثة بيان أنه ما حصل عنديمن هذه المراتب الثلاثة إلا ما يليقبالقوة البشرية و الطاقة الإنسانية، فأماالكمال المطلق فأنا لا أدعيه و إذا كانالأمر كذلك فقد ظهر أن قوله: وَ لا أَقُولُإِنِّي مَلَكٌ يدل على أنهم أكمل منالبشر، و أيضا يمكن جعل هذا الكلام جواباعما ذكروه من الشبهة فإنهم طعنوا فيأتباعه بالفقر فقال: وَ لا أَقُولُ لَكُمْعِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ حتى أجعلهمأغنياء و طعنوا فيهم أيضا بأنهم منافقونفقال: وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حتى أعرفكيفية باطنهم و إنما أجري الأحوال علىالظواهر و طعنوا فيهم بأنهم قد يأتونبأفعال لا كما ينبغي فقال: وَ لا أَقُولُإِنِّي مَلَكٌ حتى أكون مبرأ عن جميعالدواعي الشهوانية و البواعث النفسانية.
فقالوا: إن هذه الآية دلت على أن طردالمؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصولالمعاصي، ثم إن محمداصلّى الله عليه وسلّمطرد فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الكفار