فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهمالوجل، فإذا سمعوا الإنذار و التخويف لمتوجل قلوبهم و صارت كالميتة عند ذكر اللّهتعالى.
إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقامالبعض، فلهذا السبب قال: وَ اطْمَأَنُّوابِها.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ
و المراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلبلقاء اللّه تعالى بمنزلة الغافل عنالشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكرذلك الشيء، و بالجملة فهذه الصفاتالأربعة دالة على شدة بعده عن طلبالاستسعاد بالسعادات الأخرويةالروحانية، و على شدة استغراقه في طلب هذهالخيرات الجسمانية و السعادات الدنيوية.
و اعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفاتالأربعة قال: أُولئِكَ مَأْواهُمُالنَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ و فيهمسألتان:
النار التي هي جسم محسوس مضيء محرق،صاعدا بالطبع، و الإقرار به واجب، لأجلأنه ثبت بالدلائل المذكورة أن الإقراربالجنة و النار حق.
القسم الثاني: النار الروحانية العقلية،و تقريره أن من أحب شيئا حبا شديدا ثم ضاععنه ذلك الشيء بحيث لا يمكنه الوصولإليه، فإنه يحترق قلبه و باطنه، و كل عاقليقول: إن فلانا محترق القلب محترق الباطنبسبب فراق ذلك المحبوب و ألم هذه النارأقوى بكثير من ألم النار المحسوسة.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الأرواح التي كانتمستغرقة في حب الجسمانيات و كانت غافلة عنحب عالم الروحانيات، فإذا مات ذلك الإنسانوقعت الفرقة بين ذلك الروح و بين معشوقاتهو محبوباته، و هي أحوال هذا العالم، و ليسله معرفة بذلك العالم و لا إلف مع أهل ذلكالعالم، فيكون مثاله مثال من أخرج منمجالسة معشوقة و ألقي في بئر ظلمانية لاإلف له بها، و لا معرفة له بأحوالها، فهذاالإنسان يكون في غاية الوحشة، و تألمالروح فكذا هنا، أما لو كان نفورا عن هذهالجسمانيات عارفا بمقابحها و معايبها وكان شديد الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى،عظيم الحب للّه، كان مثاله مثال من كانمحبوسا في سجن مظلم عفن مملوء من الحشراتالمؤذية و الآفات المهلكة، ثم اتفق أن فتحباب السجن و أخرج منه و أحضر في مجلسالسلطان الأعظم مع الأحباب و الأصدقاء،كما قال تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَالنَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَأُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] فهذا هوالإشارة إلى تعريف النار الروحانية والجنة الروحانية.
و نظيره قوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْيَداكَ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَبِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج: 10].
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُواالصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْبِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُالْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّوَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُدَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّالْعالَمِينَ (10)