أن الإنسان إنما يستفيدالعلم بالتعلم من الأستاذ،
و ذلك لا يمكن إلا بقوة السمع، فاستكمالالنفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوةالسمع، و لا يتوقف على قوة البصر، فكانالسمع أفضل من البصر.
أنه تعالى قال: إِنَّ فِيذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌأَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ[ق: 37]
و المراد من القلب ههنا العقل، فجعل السمعقرينا للعقل و يتأكد هذا بقوله تعالى: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْنَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِالسَّعِيرِ [الملك: 10] فجعلوا السمع سبباللخلاص من عذاب السعير.
أن المعنى الذي يمتاز بهالإنسان من سائر الحيوانات هو النطق والكلام
و إنما ينتفع بذلك القوة السامعة، فمتعلقالسمع النطق الذي به حصل شرف الإنسان، ومتعلق البصر إدراك الألوان و الأشكال، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس و بين سائرالحيوانات، فوجب أن يكون السمع أفضل منالبصر.
أن الأنبياء عليهم السلاميراهم الناس و يسمعون كلامهم،
فنبوتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفاتالمرئية، و إنما حصلت بسبب ما معهم منالأصوات المسموعة و هو الكلام و تبليغالشرائع و بيان الأحكام، فوجب أن يكونالمسموع أفضل من المرئي، فلزم أن يكونالسمع أفضل من البصر، فهذا جملة ما تمسك بهالقائلون بأن السمع أفضل من البصر،
و من الناس من قال: البصر أفضل من السمع، ويدل عليه وجوه:
أنهم قالوا في المثلالمشهور ليس و راء العيان بيان،
و ذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هوالأبصار.
أن آلة القوة الباصرة هوالنور و آلة القوة السامعة هي الهواء
و النور أشرف من الهواء فالقوة الباصرةأشرف من القوة السامعة.
أن عجائب حكمة اللَّهتعالى في تخليق العين التي هي محل الأبصارأكثر من عجائب خلقته في الأذن
التي هي محل السماع، فإنه تعالى جعل تمامروح و احد من الأرواح السبعة الدماغية منالعصب آلة للأبصار، و ركب العين من سبعطبقات و ثلاث رطوبات و خلق لتحريكات العينعضلات كثيرة على صور مختلفة و الأذن ليسكذلك و كثرة العناية في تخليق الشيء تدلعلى كونه أفضل من غيره.
أن البصر يرى ما حصل فوقسبع سموات و السمع لا يدرك ما بعد منه علىفرسخ،
فكان البصر أقوى و أفضل و بهذا البيانيدفع قولهم إن السمع يدرك من كل الجوانب والبصر لا يدرك إلا من الجانب الواحد.
أن كثيرا من الأنبياء سمعكلام اللَّه في الدنيا،
و اختلفوا في أنه هل رآه أحد في الدنيا أملا؟ و أيضا فإن موسى عليه السلام سمع كلامهمن غير سبق سؤال و التماس و لما سأل الرؤيةقال: لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] و ذلك يدلعلى أن حال الرؤية أعلى من حال السماع.
قال ابن الأنباري: كيفيكون السمع أفضل من البصر و بالبصر يحصلجمال الوجه، و بذهابه عيبه،
و ذهاب السمع لا يورث الإنسان عيبا، العربتسمي العينين الكريمتين و لا تصف السمعبمثل هذا؟ و منه الحديث يقول اللَّه تعالى:(من أذهبت كريمته فصبر و احتسب لم أرض لهثوابا دون الجنة).