و قال: حصلت الخصومة بين الحوادث العقليةالإلهية و بين النوازع النفسانيةالجسدانية، و الترجيح لجانب العقل لأنهيدعو إلى فضل اللَّه و رحمته و النفس تدعوإلى جمع الدنيا و شهواتها و فضل اللَّه ورحمته خير لكم مما تجمعون من الدنيا لأنالآخرة خير و أبقى، و ما كان كذلك فهو أولىبالطلب و التحصيل.
قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُلَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُحَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَلَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ(59) وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَعَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَالْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍعَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْلا يَشْكُرُونَ (60)
و في الآية مسائل:
و لا أستحسن و احدا منها.
و الذي يخطر بالبال و العلم عند اللَّهتعالى وجهان: الأول: أن المقصود من هذاالكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة. وتقريره أنه عليه الصلاة و السلام قالللقوم: «إنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها فهذا الحكم تقولونه على سبيلالافتراء على اللَّه تعالى، أو تعلمون أنهحكم حكم اللَّه به» و الأول طريق باطلبالاتفاق، فلم يبق إلا الثاني، ثم منالمعلوم أنه تعالى ما خاطبكم به من غير واسطة، و لما بطل هذا، ثبت أن هذه الأحكامإنما و صلت إليكم بقول رسول أرسله اللَّهإليكم و نبي بعثه اللَّه إليكم، و حاصلالكلام أن حكمهم بحل بعض الأشياء و حرمةبعضها مع اشتراك الكل في الصفات المحسوسةو المنافع المحسوسة، يدل على اعترافكمبصحة النبوة و الرسالة و إذا كان الأمركذلك، فكيف يمكنكم أن تبالغوا هذهالمبالغات العظيمة في إنكار النبوة والرسالة و حمل الآية على هذا الوجه الذيذكرته طريق حسن معقول.
في حسن تعلق هذه الآية بماقبلها هو أنه عليه الصلاة و السلام، لماذكر الدلائل الكثيرة على صحة نبوة نفسه وبين فساد سؤالاتهم و شبهاتهم في إنكارها،أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم و بين أن التمييز بين هذه الأشياءبالحل و الحرمة، مع أنه لم يشهد بذلك لاعقل و لا نقل طريق باطل و منهج فاسد، والمقصود إبطال مذاهب القوم في أديانهم وفي أحكامهم، و أنهم ليسوا على شيء في بابمن الأبواب.
و أيضا قوله تعالى: وَ قالُوا هذِهِأَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: 138]إلى قوله: وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِالْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام: 139]و أيضا قوله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍمِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَالْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الأنعام: 143] والدليل عليه أن قوله: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُحَراماً إشارة إلى أمر تقدم منهم، و لم يحكاللَّه تعالى عنهم إلا هذا، فوجب توجه هذاالكلام إليه، ثم لما حكى تعالى عنهم ذلكقال لرسوله عليه الصلاة و السلام: قُلْآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَىاللَّهِ تَفْتَرُونَ و هذه القسمة صحيحة،لأن هذه الأحكام إما أن تكون من اللَّهتعالى أو لم تكن من اللَّه فإن كانت مناللَّه تعالى، فهو المراد بقوله: آللَّهُأَذِنَ لَكُمْ و إن كانت ليست من اللَّهفهو المراد بقوله: أَمْ عَلَى اللَّهِتَفْتَرُونَ.