هذا العتاب و الأمر بالاستغفار، و لا يدلعلى سابقة الذنب كما قال: إِذا جاءَ نَصْرُاللَّهِ وَ الْفَتْحُ وَ رَأَيْتَالنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِأَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر: 1- 3] و معلوم أنمجيء نصر اللَّه و الفتح و دخول الناس فيدين اللَّه أفواجا ليست بذنب يوجبالاستغفار و قال تعالى: وَ اسْتَغْفِرْلِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] و ليس جميعهممذنبين، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكونبسبب ترك لأفضل.
و قرأ ابن عامر و نافع برواية قالونبتشديد النون و كسرها من غير إثبات الياء،و قرأ أبو عمرو بتخفيف النون و كسرها و حذفالياء تسألن أما التشديد فللتأكيد و أماإثبات الياء فعلى الأصل، و أما تركالتشديد و الحذف فللتخفيف من غير إخلال.
[في قوله تعالى رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَأَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِعِلْمٌ وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ]
و اعلم أنه تعالى لما نهاه عن ذلك السؤالحكى عنه أنه قال: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُبِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِعِلْمٌ وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ والمعنى أنه تعالى لما قال له: فَلاتَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌفقال عند ذلك قبلت يا رب هذا التكليف، و لاأعوذ إليه إلا أني لا أقدر على الاحترازمنه إلا بإعانتك و هدايتك، فلهذا بدأ أولابقوله: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ.
و اعلم أن قوله: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْأَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌإخبار عما في المستقبل، أي لا أعود إلى هذاالعمل، ثم أشتغل بالاعتذار عما مضى، فقال:وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِيأَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ و حقيقة التوبةتقتضي أمرين: أحدهما: في المستقبل، و هوالعزم على الترك و إليه الإشارة بقوله:إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مالَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ و الثاني: فيالماضي و هو الندم على ما مضى و إليهالإشارة بقوله: وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ ونختم هذا الكلام بالبحث عن الزلة التيصدرت عن نوح عليه السلام في هذا المقام.
فنقول: إن أمة نوح عليه السلام كانوا علىثلاثة أقسام كافر يظهر كفره و مؤمن يعلمإيمانه و جمع من المنافقين، و قد كان حكمالمؤمنين هو النجاة و حكم الكافرين هوالغرق، و كان ذلك معلوما، و أما أهل النفاقفبقي حكمهم مخفيا و كان ابن نوح منهم و كانيجوز فيه كونه مؤمنا، و كانت الشفقةالمفرطة التي تكون من الأب في حق الابنتحمله على حمل أعماله و أفعاله لا على كونهكافرا، بل على الوجوه الصحيحة، فلما رآهبمعزل عن القوم طلب منه أن يدخل السفينةفقال: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِيمِنَ الْماءِ و ذلك لا يدل على كفره لجوازأن يكون قد ظن أن الصعود على الجبل يجريمجرى الركوب في السفينة في أنه يصونه عنالغرق، و قول نوح:
لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِإِلَّا مَنْ رَحِمَ لا يدل إلا على أنهعليه السلام كان يقرر عند ابنه أنه لاينفعه إلا الإيمان و العمل الصالح، و هذاأيضا لا يدل على أنه علم من ابنه أنه كانكافرا فعند هذه الحالة كان قد بقي في قلبهظن أن ذلك الابن مؤمن، فطلب من اللَّهتعالى تخليصه بطريق من الطرق إما بأنيمكنه من الدخول في السفينة، و إما أنيحفظه على قلة جبل، فعند ذلك أخبره اللَّهتعالى بأنه منافق و أنه ليس من أهل دينه،فالزلة الصادرة عن نوح عليه السلام هو أنهلم يستقص في تعريف ما يدل على نفاقه وكفره، بل اجتهد في ذلك و كان يظن أنه مؤمن،مع أنه أخطأ في ذلك الاجتهاد، لأنه كانكافرا فلم يصدر عنه إلا الخطأ في هذاالاجتهاد، كما قررنا ذلك في أن آدم عليهالسلام لم تصدر عنه تلك الزلة إلا لأنهأخطأ في هذا الاجتهاد، فثبت بما ذكرنا أنالصادر عن نوح عليه السلام ما كان من بابالكبائر و إنما هو من باب الخطأ فيالاجتهاد، و اللَّه أعلم.