يقتضي تكوين الكائن و تحصيل الحاصل و هومحال فثبت أن زوال الاختلاف في الدين وحصول العلم و الهداية لا يحصل إلا بخلقاللَّه تعالى و هو المطلوب.
ثم قال تعالى: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وفيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: و للرحمةخلقهم، و هذا اختيار جمهور المعتزلة.قالوا: و لا يجوز أن يقال: و للاختلافخلقهم، و يدل عليه وجوه: الأول: أن عودالضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عودهإلى أبعدهما، و أقرب المذكورين ههنا هوالرحمة، و الاختلاف أبعدهما. و الثاني: أنهتعالى لو خلقهم للاختلاف و أراد منهم ذلكالإيمان، لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه، إذكانوا مطيعين له بذلك الاختلاف. الثالث:إذا فسرنا الآية بهذا المعنى، كان مطابقالقوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56].
فإن قيل: لو كان المراد و للرحمة خلقهملقال: و لتلك خلقهم و لم يقل: و لذلك خلقهم.
قلنا: إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثا حقيقيا،فكان محمولا على الفضل و الغفران كقوله:هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف: 98] وقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌمِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56].
و القول الثاني: أن المراد و للاختلافخلقهم.
و القول الثالث: و هو المختار أنه خلق أهلالرحمة للرحمة و أهل الاختلاف للاختلاف.روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: خلقاللَّه أهل الرحمة لئلا يختلفوا، و أهلالعذاب لأن يختلفوا، و خلق الجنة و خلق لهاأهلا، و خلق النار و خلق لها أهلا، و الذييدل على صحة هذا التأويل وجوه: الأول:الدلائل القاطعة الدالة على أن العلم والجهل لا يمكن حصولهما في العبد إلابتخليق اللَّه تعالى. الثاني: أن يقال: إنهتعالى لما حكم على البعض بكونهم مختلفين وعلى الآخرين بأنهم من أهل الرحمة و علم ذلكامتنع انقلاب ذلك، و إلا لزم انقلاب العلمجهلا و هو محال. الثالث: أنه تعالى قالبعده: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَلَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَالْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ وهذا تصريح بأنه تعالى خلق أقواما للهدايةو الجنة، و أقواما آخرين للضلالة و النار،و ذلك يقوي هذا التأويل.
وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْأَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِفُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ(120)
اعلم أنه تعالى لما ذكر القصص الكثيرة فيهذه السورة ذكر في هذه الآية نوعين منالفائدة.
الفائدة الأولى: تثبيت الفؤاد على أداءالرسالة و على الصبر و احتمال الأذى، و ذلكلأن الإنسان إذا ابتلي بمحنة و بلية فإذارأى له فيه مشاركا خف ذلك على قلبه، كمايقال: المصيبة إذا عمت خفت، فإذا سمعالرسول هذه القصص، و علم أن حال جميعالأنبياء صلوات اللَّه عليهم مع أتباعهمهكذا، سهل عليه تحمل الأذى من قومه و أمكنهالصبر عليه.
و الفائدة الثانية: قوله: وَ جاءَكَ فِيهذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرىلِلْمُؤْمِنِينَ و في قوله: فِي هذِهِوجوه: أحدها: في هذه السورة. و ثانيها: فيهذه الآية. و ثالثها: في هذه الدنيا، و هذابعيد غير لائق بهذا الموضع.