شرح نهج البلاغه

ابن ابی الحدید معتزلی

نسخه متنی -صفحه : 614/ 249
نمايش فراداده

الشرح:

المساك، بكسر الميم: ما يمسك و يعصم به.

و قوله: (ابتدع الخلق على غير مثال امتثله) يحتمل وجهين: احدهما: ان يريد ب (امتثله) مثله، كما تقول: صنعت و اصطنعت بمعنى، فيكون التقدير انه لم يمثل لنفسه مثالا قبل شروعه فى خلق العالم، ثم احتذى ذلك المثال، و ركب العالم على حسب ترتيبه، كالصانع الذى يصوغ حلقه من رصاص مثالا، ثم يصوغ حلقه من ذهب عليها، و كالبناء يقدر و يفرض رسوما و تقديرات فى الارض و خطوطا، ثم يبنى بحسبها.

و الوجه الثانى: انه يريد بامتثله احتذاه و تقبله و اتبعه، و الاصل فيه امتثال الامر فى القول، فنقل الى احتذاء الترتيب العقلى، فيكون التقدير انه لم يمثل له فاعل آخر قبله مثالا اتبعه و احتذاه و فعل نظيره، كما يفعل التلميذ فى الصباغه و النجاره شيئا قد مثل له استاذه صورته و هيئته.

و اعلم ان هذا احد الاسئله التى يذكرها اصحابنا فى باب كونه عالما، لانهم لما استدلوا على كونه تعالى عالما بطريق احكام العلم و اتقانه، سالوا انفسهم فقالوا: لم لايجوز ان يكون القديم سبحانه احدث العالم محتذيا لمثال مثله، و هيئه اقتضاها، و المحتذى لايجب كونه عالما بما يفعله، الا ترى ان من لايحسن الكتابه قد يحتذى خطا مخصوصا، فيكتب قريبا منه، و كذلك من يطبع ا لشمع بالخاتم ثم يطبع فيه مثال الخاتم، فهو فعل الطابع، و لايجب كونه عالما.

و اجاب اصحابنا عن ذلك فقالوا: ان اول فعل محكم وقع منه، ثم احتذى عليه، يكفى فى ثبوت كونه عالما، و ايضا فان المحتذى ليست العالميه بمسلوبه عنه، بل موصوف بها، الا ترى انه متصور صوره ما يحتذيه، ثم يوقع الفعل مشابها له، فالمحتذى عالم فى الجمله، و لكن علمه يحدث شيئا فشيئا.

فاما معنى الفصل فظاهر، يقول (ع): انه ابتدع الخلق على غير مثال قدمه لنفسه و لا قدم له غيره ليحتذى عليه، و ارانا من عجائب صنعته و من اعتراف الموجودات كلها، بانها فقيره محتاجه الى ان يمسكها بقوته، ما دلنا على معرفته ضروره، و فى هذا اشاره الى ان كل ممكن مفتقر الى الموثر، و لما كانت الموجودات كلها غيره سبحانه ممكنه لم تكن غنيه عنه سبحانه، بل كانت فقيره اليه لانها لولاه ما بقيت، فهو سبحانه غنى عن كل شى ء، و لا شى ء من الاشياء مطلقا بغنى عنه سبحانه، و هذه من خصوصيه الالهيه، و اجل ما تدركه العقول من الانظار المتعلقه بها.

فان قلت: فى هذا الكلام اشعار بمذهب شيخكم ابى عثمان، فى ان معرفته تعالى ضروريه.

قلت: يكاد ان يكون الكلام مشعرا بذلك، الا انه غير دال عليه، لانه لم يقل ما دلنا على م عرفته باضطرار و لكن قال ما دلنا باضطرار، قيام الحجه له على معرفته، فالاضطرار راجع الى قيام الحجه، لا الى المعرفه.

ثم قال (ع): و ظهرت آثار صنعته، و دلائل حكمته فى مخلوقاته فكانت و هى صامته فى الصوره ناطقه فى المعنى بوجوده و ربوبيته سبحانه، و الى هذا المعنى نظر الشاعر فقال: فو عجبا كيف يعصى الاله ام كيف يجحده الجاحد! و فى كل شى ء له آيه تدل على انه واحد و قال فى تفسير قوله تعالى: (و ان من شى ء الا يسبح بحمده و لكن لاتفقهون تسبيحهم): انه عباره عن هذا المعنى.