فقات عينه، اى بخقتها، و تفقات السحابه عن مائها: تشققت، و تفقا الدمل و القرح، و معنى فقئه (ع) عين الفتنه، اقدامه عليها حتى اطفا نارها، كانه جعل للفتنه عينا محدقه يهابها الناس، فاقدم هو عليها، ففقا عينها، فسكنت بعد حركتها و هيجانها.
و هذا من باب الاستعاره، و انما قال: (و لم يكن ليجترى ء عليها احد غيرى)، لان الناس كلهم كانوا يهابون قتال اهل القبله، و لايعلمون كيف يقاتلونهم، هل يتبعون موليهم ام لا؟ و هل يجهزون على جريحهم ام لا؟ و هل يقسمون فيئهم ام لا؟ و كانوا يستعظمون قتال من يوذن كاذاننا، و يصلى كصلاتنا، و استعظموا ايضا حرب عائشه و حرب طلحه و الزبير، لمكانهم فى الاسلام، و توقف جماعتهم عن الدخول فى تلك الحرب، كالاحنف ابن قيس و غيره، فلولا ان عليا اجترا على سل السيف فيها ما اقدم احد عليها، حتى الحسن (ع) ابنه، اشار عليه الا يبرح عرصه المدينه، و نهاه عن المسير الى البصره، حتى قال له منكرا عليه انكاره: و لاتزال تخن خنين الامه! و قد روى ابن هلال صاحب كتاب "الغارات" انه كلم اباه فى قتال اهل البصره بكلام اغضبه، فرماه ببيضه حديد عقرت ساقه، فعولج منها شهرين.
و الغيهب: الظلمه، و الجمع غياهب.
و انما قال: (بعد ما ماج غيهبها)، لانه اراد: بعد ما عم ضلالها فشمل، فكنى عن الضلال بالغيهب، و كنى عن العموم و الشمول بالتموج، لان الظلمه اذا تموجت شملت اماكن كثيره غير الاماكن التى تشملها لو كانت ساكنه.
و اشتد كلبها اى شرها و اذاها.
و يقال للقحط الشديد: كلب، و كذلك للقر الشديد.
ثم قال (ع): (سلونى قبل ان تفقدونى)، روى صاحب كتاب "الاستيعاب" و هو ابوعمر محمد بن عبدالبر عن جماعه من الرواه و المحدثين، قالوا: لم يقل احد من الصحابه رضى الله عنهم: (سلونى) الا على بن ابى طالب.
و روى شيخنا ابوجعفر الاسكافى فى كتاب "نقض العثمانيه" عن على بن الجعد، عن ابن شبرمه، قال: ليس لاحد من الناس ان يقول على المنبر: (سلونى) الا على بن ابى طالب (ع).
و الفئه: الطائفه، و الهاء عوض من (الياء) التى نقصت من وسطه، و اصله (فى ء) مثال فيع لانه من فاء، و يجمع على فئات، مثل شيات و هبات و لدات.
و ناعقها: الداعى اليها، من نعيق الراعى بغنمه، و هو صوته نعق ينعق بالكسر نعيقا و نعاقا، اى صاح بها و زجرها.
قال الاخطل: فانعق بضانك يا جرير فانما منتك نفسك فى الخلاء ضلالا فاما الغراب، فيقال: نغق، بالغين المعجمه ينغق بالكسر ايضا، و حكى ابن كيسان (نعق الغراب) ايض ا بعين غير معجمه.
و الركاب: الابل، واحدتها راحله، و لا واحد لها من لفظها، و جمعها ركب، مثل كتاب و كتب.
و يقال: زيت ركابى، لانه يحمل من الشام عليها.
و المناخ، بضم الميم، و محط بفتحها، يجوز ان يكونا مصدرين، و ان يكونا مكانين، اما كون المناخ مصدرا، فلانه كالمقام الذى بمعنى الاقامه، و اما كون المحط مصدرا فلانه كالمرد فى قوله سبحانه: (و ان مردنا الى الله)، و اما كونهما موضعين فلان المناخ من انخت الجمل، لا من ناخ الجمل، لانه لم يات، و الفعل اذا جاوز الثلاثه فالموضع منه ياتى مضموم الميم، لانه مشبه ببنات الاربعه، نحو دحرج، و هذا مدحرجنا، و من قال: هذا مقام بنى فلان، اى موضع مقامهم جعله كما جعلناه نحن، من اقام يقيم، لا من قام يقوم، و اما المحط، فانه كالمقتل موضع القتل، يقال: مقتل الرجل بين فكيه، و يقال للاعضاء التى اذا اصيب الانسان فيها هلك: مقاتل، و وجه المماثله كونهما مضمومى العين.
(فصل فى ذكر امور غيبيه، اخبر بها الامام ثم تحققت) و اعلم انه (ع) قد اقسم فى هذا الفصل بالله الذى نفسه بيده، انهم لايسالونه عن امر يحدث بينهم و بين القيامه الا اخبرهم به، و انه ما صح من طائفه من الناس يهتدى بها مائه و تضل بها مائه، الا و هو مخبر لهم- ان سالوه- برعاتها و قائدها و سائقها و مواضع نزول ركابها و خيولها، و من يقتل منها قتلا، و من يموت منها موتا، و هذه الدعوى ليست منه (ع) ادعاء الربوبيه، و لا ادعاء النبوه، و لكنه كان يقول: ان رسول الله (ص) اخبره بذلك، و لقد امتحنا اخباره فوجدناه موافقا، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكوره، كاخباره عن الضربه يضرب بها فى راسه فتخضب لحيته، و اخباره عن قتل الحسين ابنه عليهماالسلام، و ما قاله فى كربلاء حيث مر بها، و اخباره بملك معاويه الامر من بعده، و اخباره عن الحجاج، و عن يوسف بن عمر، و ما اخبر به من امر الخوارج بالنهروان، و ما قدمه الى اصحابه من اخباره بقتل من يقتل منهم، و صلب من يصلب، و اخباره بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين، و اخباره بعده الجيش الوارد اليه من الكوفه لما شخص (ع) الى البصره لحرب اهلها، و اخباره عن عبدالله بن الزبير، و قوله فيه: (خب ضب، يروم امرا و لايدركه، ينصب حباله الدين لاصطياد الدنيا، و هو بعد مصلوب قريش) و كاخباره عن هلاك البصره بالغرق، و هلاكها تاره اخرى بالزبح، و هو الذى صحفه قوم فقالوا: بالريح، و كاخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان، و تنصيصه على قوم من اهلها يعرفو ن ببنى رزيق- بتقديم المهمله- و هم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين و ولده و اسحاق بن ابراهيم، و كانوا هم و سلفهم دعاه الدوله العباسيه، و كاخباره عن الائمه الذين ظهروا من ولده بطبرستان، كالناصر و الداعى و غيرهما، فى قوله (ع): (و ان لال محمد بالطالقان لكنزا سيظهره الله اذا شاء دعاوه حتى يقوم باذن الله فيدعو الى دين الله)، و كاخباره عن مقتل النفس الزكيه بالمدينه، و قوله: (انه يقتل عند احجار الزيت)، و كقوله عن اخيه ابراهيم المقتول بباب حمزه: (يقتل بعد ان يظهر و يقهر بعد ان يقهر)، و قوله فيه ايضا: (ياتيه سهم غرب يكون فيه منيته فيا بوسا للرامى! شلت يده، و وهن عضده)، و كاخباره عن قتلى وج، و قوله فيهم: (هم خير اهل الارض).
و كاخباره عن المملكه العلويه بالغرب، و تصريحه بذكر كتامه، و هم الذين نصروا اباعبدالله الداعى المعلم.
و كقوله و هو يشير الى ابى عبدالله المهدى: و هو اولهم ثم يظهر صاحب القيروان الغض البض، ذو النسب المحض، المنتجب من سلاله ذى لبداء، المسجى بالرداء و كان عبيدالله المهدى ابيض مترفا مشربا بحمره، رخص البدن، تار الاطراف.
و ذو البداء اسماعيل بن جعفر بن محمد عليهماالسلام، و هو المسجى بالرداء، لان اباه اباعب دالله جعفرا سجاه بردائه لما مات، و ادخل اليه وجوه الشيعه يشاهدونه، ليعلموا موته، و تزول عنهم الشبهه فى امره.
و كاخباره عن بنى بويه و قوله فيهم: (و يخرج من ديلمان بنوالصياد)، اشاره اليهم.
و كان ابوهم صياد السمك يصيد منه بيده ما يتقوت هو و عياله بثمنه، فاخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكا ثلاثه، و نشر ذريتهم حتى ضربت الامثال بملكهم.
و كقوله (ع) فيهم: (ثم يستشرى امرهم حتى يملكوا الزوراء، و يخلعوا الخلفاء) فقال له قائل: فكم مدتهم يا اميرالمومنين؟ فقال: (مائه او تزيد قليلا).
و كقوله فيهم: (و المترف ابن الاجذم، يقتله ابن عمه على دجله)، و هو اشاره الى عز الدوله بختيار بن معز الدوله ابى الحسين، و كان معز الدوله اقطع اليد، قطعت يده للنكوص فى الحرب، و كان ابنه عز الدول بختيار مترفا، صاحب لهو و شرب، و قتله عضد الدوله فناخسرو، ابن عمه بقصر الجص على دجله فى الحرب، و سلبه ملكه.
فاما خلعهم للخلفاء فان معز الدوله خلع المستكفى، و رتب عوضه المطيع، و بهاء الدوله ابانصر بن عضد الدوله خلع الطائع و رتب عوضه القادر، و كانت مده ملكهم كما اخبر به (ع).
و كاخباره (ع) لعبدالله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الامر الى اولاده، فان عل ى بن عبدالله لما ولد، اخرجه ابوه عبدالله الى على (ع)، فاخذه و تفل فى فيه و حنكه بتمره قد لاكها، و دفعه اليه، و قال: خذ اليك اباالاملاك.
هكذا الروايه الصحيحه، و هى التى ذكرها ابوالعباس المبرد فى كتاب "الكامل"، و ليست الروايه التى يذكر فيها العدد بصحيحه و لامنقوله من كتاب معتمد عليه.
و كم له من الاخبار عن الغيوب الجاريه هذا المجرى، مما لو اردنا استقصاءه لكسرنا له كراريس كثيره، و كتب السير تشتمل عليها مشروحه.
فان قلت: لما ذا غلا الناس فى اميرالمومنين (ع): فادعوا فيه الالهيه لاخباره عن الغيوب التى شاهدوا صدقها عيانا، و لم يغلوا فى رسول الله (ص) فيدعوا له الالهيه، و اخباره عن الغيوب الصادقه قد سمعوها و علموها يقينا، و هو كان اولى بذلك، لانه الاصل المتبوع، و معجزاته اعظم، و اخباره عن الغيوب اكثر؟ قلت ان الذين صحبوا رسول الله (ص)، و شاهدوا معجزاته، و سمعوا اخباره عن الغيوب الصادقه عيانا، كانوا اشد آراء، و اعظم احلاما، و اوفر عقولا من تلك الطائفه الضعيفه العقول، السخيفه الاحلام، الذين راوا اميرالمومنين (ع) فى آخر ايامه، كعبدالله بن سبا و اصحابه، فانهم كانوا من ركاكه البصائر و ضعفها على حال مشهوره، فلا عجب عن مثلهم ا ن تستخفهم المعجزات، فيعتقدوا فى صاحبها ان الجوهر الالهى قد حله لاعتقادهم انه لايصح من البشر هذا الا بالحلول، و قد قيل: ان جماعه من هولاء كانوا من نسل النصارى و اليهود، و قد كانوا سمعوا من آبائهم و سلفهم القول بالحلول فى انبيائهم و روسائهم، فاعتقدوا فيه (ع) مثل ذلك.
و يجوز ان يكون اصل هذه المقاله من قوم ملحدين ارادوا ادخال الالحاد فى دين الاسلام، فذهبوا الى ذلك، و لو كانوا فى ايام رسول الله (ص) لقالوا فيه مثل هذه المقاله، اضلالا لاهل الاسلام، و قصدا لايقاع الشبهه فى قلوبهم، و لم يكن فى الصحابه مثل هولاء، و لكن قد كان فيهم منافقون و زنادقه، و لم يهتدوا الى هذه الفتنه، و لاخطر لهم مثل هذه المكيده.
و مما ينقدح لى من الفرق بين هولاء القوم و بين العرب الذين عاصروا رسول الله (ص)، ان هولاء من العراق و ساكنى الكوفه، و طينه العراق مازالت تنبت ارباب الاهواء و اصحاب النحل العجيبه و المذاهب البديعه، و اهل هذا الاقليم اهل بصر و تدقيق و نظر، و بحث عن الاراء و العقائد، و شبه معترضه فى المذاهب، و قد كان منهم فى ايام الاكاسره مثل مانى و ديصان و مزدك و غيرهم، و ليست طينه الحجاز هذه الطينه، و لااذهان اهل الحجاز هذه الاذهان، و ا لغالب على اهل الحجاز الجفاء و العجر فيه و خشونه الطبع، و من سكن المدن منهم كاهل مكه و المدينه و الطائف فطباعهم قريبه من طباع اهل الباديه بالمجاوره، و لم يكن فيهم من قبل حكيم و لا فيلسوف و لا صاحب نظر و جدل، و لا موقع شبهه، و لا مبتدع نحله، و لهذا نجد مقاله الغلاه طارئه و ناشئه من حيث سكن على (ع) بالعراق و الكوفه، لا فى ايام مقامه بالمدينه، و هى اكثر عمره.
فهذا ما لاح لى من الفرق بين الرجلين فى المعنى المقدم ذكره.
فان قلت: لما ذا قال عن فئه تهدى مائه؟ و ما فائده التقييد بهذا العدد؟ قلت: لان ما دون المائه حقير تافه لايعتد به ليذكر و يخبر عنه، فكانه قال: مائه فصاعدا.
قوله (ع): (كرائه الامور) جمع كريهه و هى الشده فى الحرب.
و حوازب الخطوب: جمع حازب، و حزبه الامر، اى دهمه.
و فشل: جبن، فان قلت: اما فشل المسئول فمعلوم، فما الوجه فى اطراق السائل؟ قلت: لشده الامر و صعوبته، حتى ان السائل ليبهت و يدهش فيطرق، و لايستطيع السوال.