هذا الكلام بظاهره يقتضى انه ما امر بقتله، و لانهى عنه، فيكون دمه عنده فى حكم الامور المباحه التى لايومر بها، و لاينهى عنها.
غير انه لايجوز ان يحمل الكلام على ظاهره، لما ثبت من عصمه دم عثمان.
و ايضا فقد ثبت فى السير و الاخبار انه كان (ع) ينهى الناس عن قتله، فاذن يجب ان يحمل لفظ النهى على المنع كما يقال: الامير ينهى عن نهب اموال الرعيه اى يمنع و حينئذ يستقيم الكلام لانه (ع) ما امر بقتله، و لا منع عن قتله و انما كان ينهى عنه باللسان و لايمنع عنه باليد.
فان قيل: فالنهى عن المنكر واجب، فهلا منع من قتله باليد؟ قيل: انما يجب المنع باليد عن المنكر اذا كان حسنا، و انما يكون الانكار حسنا اذا لم يغلب على ظن الناهى عن المنكر ان نهيه لا يوثر، فان غلب على ظنه ان نهيه لا يوثر قبح انكار المنكر لانه ان كان الغرض تعريف فاعل القبيح قبح ما اقدم عليه، فذلك حاصل من دون الانكار.
و ان كان الغرض الا يقع المنكر، فذلك غير حاصل لانه قد غلب على ظنه ان نهيه و انكاره لا يوثر و لذلك لايحسن من الانسان الانكار على اصحاب الماصر ما هم عليه من اخذ المكوس، لما غلب على الظن ان الانكار لا يوثر، و هذا يقتضى ان يكون اميرالمومن ين (ع) قد غلب على ظنه ان انكاره لا يوثر، فلذلك لم ينكر.
و لاجل اشتباه هذا الكلام على السامعين، قال كعب بن جعيل، شاعر اهل الشام الابيات التى منها: ارى الشام تكره اهل العراق و اهل العراق لهم كارهونا و كل لصاحبه مبغض يرى كل ما كان من ذاك دينا اذا ما رمونا رميناهم و دناهم مثل ما يقرضونا و قالوا: على امام لنا فقلنا: رضينا ابن هند رضينا و قالوا: نرى ان تدينوا لنا فقلنا: الا لا نرى ان ندينا و من دون ذلك خرط القتاد و طعن و ضرب يقر العيونا و كل يسر بما عنده يرى غث ما فى يديه سمينا و ما فى على لمستعتب مقال سوى ضمه المحدثينا و ايثاره اليوم اهل الذنوب و رفع القصاص عن القاتلينا اذا سيل عنه حذا شبهه و عمى الجواب على السائلينا فليس براض و لا ساخط و لا فى النهاه و لا الامرينا و لا هو ساء و لا سره و لابد من بعض ذا ان يكونا و هذا شعر خبيث منكر، و مقصد عميق و ما قال هذا الشعر الا بعد ان نقل الى اهل الشام كلام كثير لاميرالمومنين (ع) فى عثمان يجرى هذا المجرى، نحو قوله: ما سرنى و لا ساءنى.
و قيل له: ارضيت بقتله؟ فقال: لم ارض فقيل له: اسخطت قتله؟ فقال: لم اسخط.
و قوله تاره: الله قتله و انا معه و قوله تاره اخرى: ما قتلت عثمان و لا مالات فى قتله.
و قوله تاره اخرى: كنت رجلا من المسلمين اوردت اذ اوردوا، و اصدرت اذ اصدروا.
و لكل شى ء من كلامه اذا صح عنه تاويل يعرفه اولو الالباب.
فاما قوله: غير ان من نصره فكلام معناه ان خاذليه كانوا خيرا من ناصريه لان الذين نصروه كان اكثرهم فساقا كمروان بن الحكم و اضرابه و خذله المهاجرون و الانصار.
فاما قوله: (و انا جامع لكم امره...) الى آخر الفصل فمعناه انه فعل ما لايجوز، و فعلتم ما لايجوز، اما هو فاستاثر فاساء الاثره اى استبد بالامور فاساء فى الاستبداد، و اما انتم فجزعتم مما فعل اى حزنتم فاساتم الجزع، لانكم قتلتموه، و قد كان الواجب عليه ان يرجع عن استئثاره، و كان الواجب عليكم الا تجعلوا جزاءه عما اذنب القتل، بل الخلع و الحبس و ترتيب غيره فى الامامه.
ثم قال: و لله حكم سيحكم به فيه و فيكم.
اضطراب الامر على عثمان ثم اخبار مقتله و يجب ان نذكر فى هذا الموضع ابتداء اضطراب الامر على عثمان الى ان قتل.
و اصح ما ذكر فى ذلك ما اورده ابوجعفر محمد بن جرير الطبرى فى "التاريخ".
و خلاصه ذلك ان عثمان احدث احداثا مشهوره نقمها الناس عليه، من تامير بنى اميه، و لا سيما الفسا ق منهم و ارباب السفه و قله الدين و اخراج مال الفى ء اليهم و ما جرى فى امر عمار و ابى ذر و عبدالله بن مسعود، و غير ذلك من الامور التى جرت فى اواخر خلافته.
ثم اتفق ان الوليد بن عقبه لما كان عامله على الكوفه و شهد عليه بشرب الخمر صرفه و ولى سعيد بن العاص مكانه، فقدم سيعد الكوفه و استخلص من اهلها قوما يسمرون عنده فقال سعيد يوما: ان السواد بستان للقريش و بنى اميه.
فقال الاشتر النخعى: و تزعم ان السواد الذى افاءه الله على المسلمين باسيافنا بستان لك و لقومك! فقال صاحب شرطته: اترد على الامير مقالته.
و اغلظ له فقال الاشتر لمن كان حوله من النخع و غيرهم من اشراف الكوفه الا تسمعون فوثبوا عليه بحضره سعيد فوطئوه وطا عنيفا و جروا برجله فغلظ ذلك على سعيد و ابعد سماره فلم ياذن بعد لهم فجعلوا يشتمون سعيدا فى مجالسهم، ثم تعدوا ذلك الى شتم عثمان و اجتمع اليهم ناس كثير حتى غلظ امرهم فكتب سعيد الى عثمان فى امرهم فكتب اليه ان يسيرهم الى الشام لئلا يفسدوا اهل الكوفه و كتب الى معاويه و هو والى الشام: ان نفرا من اهل الكوفه قد هموا باثاره الفتنه، و قد سيرتهم اليك فانههم، فان آنست منهم رشدا فاحسن اليهم، و ارددهم الى بلادهم.
فلما قدموا ع لى معاويه- و كانوا: الاشتر و مالك بن كعب الارحبى، و الاسود بن يزيد النخعى، و علقمه بن قيس النخعى و صعصعه بن صوحان العبدى، و غيرهم- جمعهم يوما، و قال لهم: انكم قوم من العرب، ذوو اسنان و السنه، و قد ادركتم بالاسلام شرفا و غلبتم الامم و حويتم مواريثهم و قد بلغنى انكم ذممتم قريشا و نقمتم على الولاه فيها و لولا قريش لكنتم اذله، ان ائمتكم لكم جنه فلا تفرقوا عن جنتكم ان ائمتكم ليصبرون لكم على الجور و يحتملون منكم العتاب و الله لتنتهن او ليبتلينكم الله بمن يسومكم الخسف و لايحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعيه فى حياتكم و بعد وفاتكم.
فقال له صعصعه بن صوحان: اما قريش فانها لم تكن اكثر العرب و لا امنعها فى الجاهليه، و ان غيرها من العرب لاكثر منها كان و امنع.
فقال معاويه: انك لخطيب القوم و لا ارى لك عقلا و قد عرفتكم الان و علمت ان الذى اغراكم قله العقول.
اعظم عليكم امر الاسلام فتذكرنى الجاهليه! اخزى الله قوما عظموا امركم فقهوا عنى و لااظنكم تفقهون ان قريشا لم تعز فى جاهليه و لا اسلام الا بالله وحده، لم تكن باكثر العرب و لا اشدها و لكنهم كانوا اكرمهم احسابا و امحضهم انسابا و اكملهم مروءه و لم يمتنعوا ف ى الجاهليه- و الناس ياكل بعضهم بعضا الا بالله فبواهم حرما آمنا يتخطف الناس من حوله.
هل تعرفون عربا او عجما او سودا او حمرا الا و قد اصابهم الدهر فى بلدهم و حرمهم الا ما كان من قريش فانه لم يردهم احد من الناس بكيد الا جعل الله خده الاسفل حتى اراد الله تعالى ان يستنقذ من اكرمه باتباع دينه من هوان الدنيا، و سوء مرد الاخره، فارتضى لذلك خير خلقه ثم ارتضى له اصحابا، و كان خيارهم قريشا.
ثم بنى هذا الملك عليهم، و جعل هذه الخلافه فيهم فلا يصلح الامر الا بهم، و قد كان الله يحوطهم فى الجاهليه و هم على كفرهم افتراه لايحوطهم و هم على دينه، اف لك و لاصحابك.
اما انت يا صعصعه فان قريتك شر القرى انتنها نبتا و اعمقها واديا، و الامها جيرانا و اعرفها بالشر لم يسكنها شريف قط و لاوضيع الا سب بها نزاع الامم و عبيد فارس و انت شر قومك.
احين ابرزك الاسلام، و خلطك بالناس اقبلت تبغى دين الله عوجا و تنزع الى الغوايه انه لن يضر ذلك قريشا و لايضعهم و لايمنعهم من تاديه ما عليهم ان الشيطان عنكم لغير غافل قد عرفكم بالشر فاغراكم بالناس و هو صارعكم و انكم لاتدركون بالشر امرا الا فتح عليكم شر منه و اخزى.
قد اذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم، لاينفع الل ه بكم احدا ابدا و لايضره و لستم برجال منفعه و لامضره فان اردتم النجاه فالزموا جماعتكم و لاتبطرنكم النعمه فان البطر لايجر خيرا.
اذهبوا حيث شئتم، فساكتب الى اميرالمومنين فيكم.
و كتب الى عثمان: انه قدم على قوم ليست لهم عقول و لا اديان، اضجرهم العدل لايريدون الله بشى ء و لايتكلمون بحجه، انما همهم الفتنه و الله مبتليهم ثم فاضحهم و ليسوا بالذين نخاف نكايتهم، و ليسوا باكثر ممن له شغب و نكير.
ثم اخرجهم من الشام.
و روى ابوالحسن المدائنى انه كان لهم مع معاويه بالشام مجالس طالت فيها المحاورات و المخاطبات بينهم، و ان معاويه قال لهم فى جمله ما قاله: ان قريشا قد عرفت ان اباسفيان كان اكرمها و ابن اكرمها، الا ما جعل الله لنبيه (ص) فانه انتجبه و اكرمه، و لو ان اباسفيان ولد الناس كلهم لكانوا حلماء.
فقال له صعصعه بن صوحان: كذبت، قد ولدهم خير من ابى سفيان! من خلقه الله بيده، و نفخ فيه من روحه، و امر الملائكه فسجدوا له فكان فيهم البر و الفاجر، و الكيس و الاحمق.
قال: و من المجالس التى دارت بينهم ان معاويه قال لهم: ايها القوم ردوا خيرا او اسكتوا و تفكروا و انظروا فيما ينفعكم و المسلمين، فاطلبوه و اطيعونى.
فقال له صعصعه: لست باهل ذلك، و لا كرامه لك ان تطاع فى معصيه الله.
فقال: ان اول كلام ابتدات به ان امرتكم بتقوى الله و طاعه رسوله، و ان تعتصموا بحبل الله جميعا و لاتفرقوا.
فقالوا: بل امرت بالفرقه و خلاف ما جاء به النبى (ص).
فقال: ان كنت فعلت فانى الان اتوب، و آمركم بتقوى الله و طاعته و لزوم الجماعه و ان توقروا ائمتكم و تطيعوهم.
فقال صعصعه: ان كنت تبت فانا نامرك ان تعتزل عملك فان فى المسلمين من هو احق به منك، ممن كان ابوه احسن اثرا فى الاسلام من ابيك، و هو احسن قدما فى الاسلام منك.
فقال معاويه: ان لى فى الاسلام لقدما، و ان كان غيرى احسن قدما منى، لكنه ليس فى زمانى احد اقوى على ما انا فيه منى، و لقد راى عمر بن الخطاب ذلك، فلو كان غيرى اقوى منى لم يكن عند عمر هواده لى و لا لغيرى و لم احدث ما ينبغى له ان اعتزل عملى فلو راى ذلك اميرالمومنين لكتب الى (بخط يده) فاعتزلت عمله فمهلا فان فى دون ما انتم فيه ما يامر فيه الشيطان و ينهى.
و لعمرى لو كانت الامور تقضى على رايكم و اهوائكم ما استقام الامر لاهل الاسلام يوما و لا ليله، فعاودوا الخير و قولوه فان الله ذو سطوات و انى خائف عليكم ان تتتابعوا الى مطاوعه الشيطان و معصيه الرحمن.
فيحلكم ذلك دار ال هون فى العاجل و الاجل.
فوثبوا على معاويه فاخذوا براسه و لحيته فقال: مه! ان هذه ليست بارض الكوفه، و الله لو راى اهل الشام ما صنعتم بى (و انا امامهم) ما ملكت ان انهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمرى ان صنيعكم يشبه بعضه بعضا.
ثم قام من عندهم، و كتب الى عثمان فى امرهم فكتب اليه ان ردهم الى سعيد بن العاص بالكوفه.
فردهم فاطلقوا السنتهم فى ذمه و ذم عثمان و عيبهما.