هذه فصول اربعه لايمتزج بعضها ببعض، و كل كلام منها ينحو به اميرالمومنين (ع) نحوا غير ما ينحوه بالاخر و انما الرضى رحمه الله تعالى التقتها من كلام اميرالمومنين (ع) طويل منتشر، قاله بعد وقعه النهروان، ذكر فيه حاله منذ توفى رسول الله (ص) و الى آخر وقت، فجعل الرضى رحمه الله تعالى ما التقطه منه سردا، و صار عند السامع كانه يقصد به مقصدا واحدا.
فالفصل الاول و هو من اول الكلام الى قوله: (و استبددت برهانها) يذكر فيه مقاماته فى الامر بالمعروف و النهى عن المنكر ايام احداث عثمان، و كون المهاجرين كلهم لم ينكروا و لم يواجهوا عثمان بما كان يواجهه به و ينهاه عنه، فهذا هو معنى قوله: (فقمت بالامر حين فشلوا) اى قمت بانكار المنكر حين فشل اصحاب محمد (ص) عنه.
و الفشل: الخور و الجبن.
قال: (و نطقت حين تعتعوا) يقال: تعتع فلان اذا تردد فى كلامه من عى او حصر.
قوله: (و تطلعت حين تقبعوا) امراه طلعه قبعه، تطلع ثم تقبع راسها اى تدخله كما يقبع القنفذ يدخل براسه فى جلده، و قد تقبع الرجل، اى اختبا و ضده تطلع.
قوله: (و كنت اخفضهم صوتا، و اعلاهم فوتا) يقول: علوتهم و فتهم و شاوتهم سبقا، و انا مع ذلك خافض الصوت يشير الى الت واضع و نفى التكبر.
و قوله: (فطرت بعنانها و استبددت برهانها) يقول: سبقتهم و هذا الكلام استعاره من مسابقه خيل الحلبه.
و استبددت بالرهان، اى انفردت بالخطر الذى وقع التراهن عليه.
الفصل الثانى فيه ذكر حاله (ع) فى الخلافه بعد عثمان، يقول: كنت لما وليت الامر كالجبل لا تحركه القواصف، يعنى الرياح الشديده و مثله العواصف.
و المهمز: موضع الهمز، و هو العيب، و كذاك المغمز.
ثم قال: (الذليل عندى عزيز حتى آخذ الحق له و القوى عندى ضعيف حتى آخذ الحق منه) هذا آخر الفصل الثانى، يقول: الذليل المظلوم اقوم باعزازه و نصره، و اقوى يده الى ان آخذ الحق له ثم يعود بعد ذلك الى الحاله التى كان عليها قبل ان اقوم باعزازه و نصره و القوى الظالم استضعفه و اقهره و اذله الى ان آخذ الحق منه، ثم يعود الى الحاله التى كان عليها قبل ان اهتضمه لاستيفاء الحق.
الفصل الثالث من قوله: (رضينا عن الله قضاءه) الى قوله: (فلا اكون اول من كذب عليه) هذا كلام قاله (ع) لما تفرس فى قوم من عسكره انهم يتهمونه فيما يخبرهم به عن النبى (ص) من اخبار الملاحم و الغائبات، و قد كان شك منهم جماعه فى اقواله، و منهم من واجهه بالشك و التهمه.
الاخبار الوارده عن معرفه الامام على بالامور الغيبيه روى ابن هلال الثقفى فى كتاب "الغارات" عن زكريا بن يحيى العطار، عن فضيل، عن محمد بن على قال: لما قال على (ع): سلونى قبل ان تفقدونى، فو الله لاتسالوننى عن فئه تضل مائه و تهدى مائه، الا انباتكم بناعقتها و سائقتها، قام اليه رجل فقال: اخبرنى بما فى راسى و لحيتى من طاقه شعر فقال له على (ع): و الله لقد حدثنى خليلى ان على كل طاقه شعر من راسك ملكا يلعنك، و ان على كل طاقه شعر من لحيتك شيطانا يغويك، و ان فى بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله (ص)- و كان ابنه قاتل الحسين (ع) يومئذ طفلا يحبو- و هو سنان بن انس النخعى.
و روى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالى، عن سويد بن غفله ان عليا (ع) خطب ذات يوم، فقام رجل من تحت منبره، فقال: يا اميرالمومنين انى مررت بوادى القرى، فوجدت خالد بن عرفطه قد مات فاستغفر له، فقال (ع): و الله ما مات و لايموت حتى يقود جيش ضلاله، صاحب لوائه حبيب بن حمار.
فقام رجل آخر من تحت المنبر، فقال: يا اميرالمومنين انا حبيب بن حمار، و انى لك شيعه و محب فقال: انت حبيب بن حمار؟ قال: نعم فقال له ثانيه: و الله انك لحبيب بن حمار؟ فقال: اى و الله قال اما و الله انك لحاملها و لتحملنها و لتدخلن بها من هذا الب اب- و اشار الى باب الفيل بمسجد الكوفه.
قال ثابت: فو الله مامت حتى رايت ابن زياد، و قد بعث عمر بن سعد الى الحسين بن على (ع) و جعل خالد بن عرفط على مقدمته و حبيب بن حمار صاحب رايته، فدخل بها من باب الفيل.
و روى محمد بن اسماعيل بن عمرو البجلى، قال: اخبرنا عمرو بن موسى الوجيهى، عن المنهال بن عمرو عن عبدالله بن الحارث قال: قال على (ع) على المنبر: ما احد جرت عليه المواسى الا و قد انزل الله فيه قرآنا، فقام اليه رجل من مبغضيه فقال له: فما انزل الله تعالى فيك؟ فقام الناس اليه يضربونه فقال: دعوه اتقرا سوره هود؟ قال: نعم قال فقرا (ع): "افمن كان على بينه من ربه و يتلوه شاهد منه" ثم قال: الذى كان على بينه من ربه محمد (ص) و الشاهد الذى يتلوه انا.
و روى عثمان بن سعيد، عن عبدالله بن بكير، عن حكيم بن جبير قال: خطب على (ع) فقال فى اثناء خطبته: انا عبدالله، و اخو رسوله، لايقولها احد قبلى و لا بعدى الا كذب، ورثت نبى الرحمه، و نكحت سيده نساء هذه الامه، و انا خاتم الوصيين.
فقال رجل من عبس: (و) من لايحسن ان يقول مثل هذا! فلم يرجع الى اهله حتى جن و صرع، فسالوهم: هل رايتم به عرضا قبل هذا؟ قالوا: ما راينا به قبل هذا عرضا.
و روى محمد بن جبله الخياط عن عكرمه، عن يزيد الاحمسى ان عليا (ع) كان جالسا فى مسجد الكوفه، و بين يديه قوم منهم عمرو بن حريث، اذ اقبلت امراه مختمره لاتعرف، فوقفت فقالت لعلى (ع): يا من قتل الرجال، و سفك الدماء و ايتم الصبيان و ارمل النساء! فقال (ع): و انها لهى هذه السلقلقه الجلعه المجعه، و انها لهى هذه شبيهه الرجال و النساء التى ما رات دما قط، قال: فولت هاربه منكسه راسها، فتبعها عمرو بن حريث فلما صارت بالرحبه، قال لها: و الله لقد سررت بما كان منك اليوم الى هذا الرجل، فادخلى منزلى حتى اهب لك و اكسوك فلما دخلت منزله امر جواريه بتفتيشها و كشفها و نزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها، فبكت و سالته الا يكشفها و قالت: انا و الله كما قال لى ركب النساء، و انثيان كانثى الرجال، و ما رايت دما قط.
فتركها و اخرجها.
ثم جاء الى على (ع) فاخبره، فقال: ان خليلى رسول الله (ص) اخبرنى بالمتمردين على من الرجال و المتمردات من النساء الى ان تقوم الساعه.
قلت: السلقلقه: السليطه و اصله من السلق و هو الذئب و السلقه: الذئبه.
و الجلعه المجعه: البذيئه اللسان.
و الركب منبت العانه.
و روى عثمان بن سعيد، عن شريك بن عبدالله، قال: لما بلغ عليا (ع) ان الناس يت همونه فيما يذكره من تقديم النبى (ص) و تفضيله (اياه) على الناس قال: انشد الله من بقى ممن لقى رسول الله (ص) و سمع مقاله فى يوم غديرخم الا قام فشهد بما سمع، فقام سته ممن عن يمينه من اصحاب رسول الله (ص) و سته ممن على شماله من الصحابه ايضا، فشهدوا انهم سمعوا رسول الله (ص) يقول ذلك اليوم، و هو رافع بيدى على (ع): (من كنت مولاه فهذا على مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله و احب من احبه و ابغض من ابغضه).
و روى عثمان بن سعيد عن يحيى التيمى، عن الاعمش، عن اسماعيل بن رجاء قال: قام اعشى همدان- و هو غلام يومئذ حدث الى على (ع) و هو يخطب و يذكر الملاحم فقال: يا اميرالمومنين ما اشبه هذا الحديث بحديث خرافه! فقال على (ع): ان كنت آثما فيما قلت يا غلام، فرماك الله بغلام ثقيف ثم سكت فقام رجال فقالوا: و من غلام ثقيف يا اميرالمومنين؟ قال: غلام يملك بلدتكم هذه لايترك لله حرمه الا انتهكها، يضرب عنق هذا الغلام بسيفه فقالوا: كم يملك يا اميرالمومنين؟ قال: عشرين ان بلغها قالوا: فيقتل قتلا ام يموت موتا؟ قال: بل يموت حتف انفه بداء البطن، يثقب سريره لكثره ما يخرج من جوفه.
قال اسماعيل بن رجاء: فو الله لقد را