المؤمن الصادق الطموح يجهد نفسه في أداء مناسك الحج بشكل متقن وصحيح وبنفس طاهرة متعلقة بخالقها ومعبودها ; لأنّ نفسه تنظر الى المرآة الالهية قبل أن تنظر الى المرآة الاجتماعية والاقتصادية وغيرهما . . . بحيث يكون سلوكه الذاتي والداخلي والروحي مطابقاً للخطاب الشرعي {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فج عميق}7 .
وقد وجه الامام الخميني ـ قدّس سرّه الشريف ـ خطابات عديدة في هذا المجال; ليبين أنّ على الحاج أن يطهّر نفسه ويخلي قلبه من كلّ شيء إلاّ حب الله والطاعة والخضوع له ، وأنه يجب عليه أن يربط روحه بمعبوده الواحد الأحد ، فقد قال(رضي الله عنه)محدثاً الحجيج:
«عندما تلفظون لبيك اللهم لبيك ، قولوا: لا ، لجميع الاصنام ، واصرخوا: لا ، لكلّ الطواغيت الكبار والصغار ، وأثناء الطواف في حرم الله حيث يتجلى العشق الالهي ، اخلوا قلوبكم من الآخرين ، وطهروا أرواحكم من أي خوف لغير الله . وفي موازاة العشق الإلهي ، تبرأوا من الأصنام الكبيرة والصغيرة والطواغيت وعملائهم وأزلامهم ، من حيث أنّ الله تعالى ومحبّيه تبرّوا منهم ، وإنّ جميع أحرار العالم بريئون منهم ، وأثناء سعيكم بين الصفا والمروة اسعوا سعي من يريد الوصول الى المحبوب ، حتى إذا ما وجدتموه هانت كلّ الامور الدنيوية ، وتنتهي كلّ الشكوك والترددات . وتزول كل المخاوف والحبائل الشيطانية والارتباطات المادية .
وحين تلمسون الحجر الأسود أعقدوا البيعة مع الله أن تكونوا أعداء لأعداء الله ورسوله والصالحين والأحرار ، ومطيعين وعبيداً له ، أينما كنتم وكيفما كنتم ، لا تحنوا رؤوسكم واطردوا الخوف من قلوبكم ، واعلموا أنّ أعداء الله وعلى رأسهم الشيطان الأكبر جبناء ، وإن كانوا متفوقين في قتل البشر وفي جرائمهم وجناياتهم 8 .
ويسترسل الامام(رضي الله عنه) في حديثه للحجيج مذكرهم بالاطمئنان القلبي الحاصل من الحالة العرفانية التي يعيشها العبد من معبوده ومحبوبه قائلا:
سيروا الى المشعر الحرام وعرفات وأنتم في حالة إحساس وعرفان ، وكونوا في أي موقف مطمئني القلب لوعد الله الحق بإقامة حكم المستضعفين ، وبسكون وهدوء فكّروا بآيات الله الحق ، وفكّروا بتخليص المحرومين والمستضعفين من براثن الاستكبار العالمي ، واطلبوا من الحق تعالى في تلك المواقف الكريمة تحقيق سُبل النجاة . بعد ذلك عندما تذهبون الى منى أُطلبوا هناك أن تتحقق الآمال الحقّة حيث التضحية هناك بأثمن وأحب شيء في طريق المحبوب المطلق ، وأعلموا أنه ما لم تتجاوزا هذه الرغبات ، التي أعلاها حبّ النفس وحبّ الدنيا التابع لها ، فسوف لن تصلوا الى المحبوب المطلق . وفي هذا الحال ارجموا الشيطان . واطردوا الشيطان من أنفسكم ، وكرروا رجم الشيطان في مواقع مختلفة بناءً على الأوامر الإلهية ; لدفع شرّ الشياطين وأبنائهم عنهم 9 .
هذا وقد أكّد الامام(رضي الله عنه) مراراً وتكراراً أنّ هذا السفر سفر إلهي وليس سفراً عادياً مادياً مجرّداً ، وأنّ المراتب المعنوية للحج هي رأس مال الحياة الخالدة وهي التي تقرّب الانسان من اُفق التوحيد والتنزيه ، وأنّه لن يحصل عليها الحاج ما لم يطبق أحكام وقوانين الحج العبادية بشكل صحيح وحسن . وحرفاً بحرف ، وإذا دفن الحاج في عالم النسيان الجوانب المعنوية فلا يظن أنه قادر على التخلص والتحرر من مخالب شيطان النفس ، وما دام في أسر وقيد ذاته وأهوائه النفسية فلن يستطيع جهاداً في سبيل الله ودفاعاً عن حرماته تعالى . . .
ومن الجدير بالمعرفة أنّ روح الحاج من خلال المراسم العبادية تسمو وترتفع الى أعلى درجات الكمال النفسي والروحي مع المعبود المحبوب من خلال تطبيق المناسك بالشكل الصحيح المتقن ومن خلال الأدعية والخوف والانسجام والتضرع والبكاء ، خصوصاً عندما يشعر الحاج أنه من أناس يخافون الخالق ويهابونه في بيته وحرمه الشريف . يقول الامام(رضي الله عنه): «اِعلموا جميعاً أنّ البعد السياسي والاجتماعي للحج لا يتحقق إلاّ بعد أن يتحقق البُعد المعنوي» 10 .
فالبُعد المعنوي هو الدافع والوازع للمسلم يدفعه نحو الأبعاد الأخرى بالشكل الذي يرضي الله جلَّ وعلا . . .