(1) تذكرة الخواص: 216.
(2) تهذيب الكمال، 4:492.
(3) الواقدي: وهو محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، وقد اتهمه جُلُّ رجاليي العامة بالكذب والإفتراء وأنه متروك الرواية، وقد فصلّنا القول في هذا (راجع: الفصل الثاني: الملاحظة الرابعة من الملاحظات حول رسالة يزيد الى عبدالله بن عباس ص
150).
ذلك لأنّ نَفَس هذا الجواب مغايرٌ تماماً لنَفَس ابن عباس في مواقفه قبال بني أميّة.
هاهو ابن عباس (رض) في بلاط معاوية يُخرس محاوريه: معاوية، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، وعتبة بن أبي سفيان، وزياد بن سميّة، وعبدالرحمن بن أمّ الحكم، والمغيرة بن شعبة، بعد أن دحض إدّعاءاتهم وبهرهم بالحجّة الدامغة، ويقول ليزيد بن معاوية نفسه في قصر أبيه: «مهلاً يزيد، فواللّه ما صفت القلوب لكم منذ تكدّرت بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبّة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنكم، لارضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمسِ من أفعالكم، وإن تَدُلِ الأيّام نستقض ما سُدَّ عنّا، ونسترجع ما ابتُزَّ منّا، كيلاً بكيل، ووزناً بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليّاً لنا، ووكيلاً على المعتدين علينا.».(1)
وها هو ابن عباس (رض) يجيب يزيد(2) بقارعة أخرى من قوارعه في رسالة كتبها إليه قائلاً: «من عبدالله بن عباس الى يزيد بن معاوية. أمّا بعدُ: فقد بلغني كتابُك بذكر دعاء ابن الزبير إيّاي الى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 6:302.
(2) «أخذ ابن الزبير عبدالله بن عباس بالبيعة له، فامتنع عليه، فبلغ يزيد بن معاوية أنّ عبدالله بن عباس قد امتنع على ابن الزبير، فسرّه ذلك، وكتب الى ابن عباس: أمّا بعدُ، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك الى بيعته، وعرض عليك الدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وأنّك امتنعت عليه، واعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا، وطاعة للّه فيما عرّفك من حقّنا، فجزاك الله من ذي رحم بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم، فإني ما أنسَ من الأشياء فلستُ بناس برّك وحسن جزائك وتعجيل صلتك بالذي أنت منّي أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول، وانظر رحمك الله فيمن قِبَلَك من قومك، ومن يطرؤ عليك من الآفاق ممّن يسحره المُلحدُ بلسانه وزخرف قوله، فأعلِمهم حسن رأيك في طاعتي والتمسّك ببيعتي، فإنهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للمُحلّ المُلحد، والسلام. فكتب اليه عبدالله بن عباس...». (تأريخ اليعقوبي، 2: 247 ـ
248).
بيعته، فإنْ يك ذلك كما بلغك فلستُ حمَدك أردتُ ولاوُدَّكَ، ولكنّ الله بالذي أنوي عليم، وزعمتَ أنّك لستَ بناس ودّي فلعمري ما تؤتينا ممّا في يديك من حقّنا إلاّ القليل، وإنك لتحبس عنّا منه العريض الطويل، وسألتني أن أحثّ الناسَ عليك وأخذّلهم عن ابن الزبير، فلا ولا سروراً ولاحبوراً، وأنت قتلت الحسين بن عليّ!، بفيك الكثكث،(1) ولك الأثلب،(2) إنّك إنْ تُمنّك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنّك لأنت المفند المهوّر.
لاتحسبني، لا أباً لك، نسيتُ قتلك حسيناً وفتيان بني عبدالمطلّب، مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مصرّعين في صعيد، مرمّلين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لامكفَّنين، تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتُنشي بهم عُرج الضباع،
حتّى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنّوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست يايزيد.
وما أنسَ من الأشياء فلستُ بناس تسليطك عليهم الدعيَّ العاهر(3) ابن العاهر، البعيد رحماً، اللئيم أباً وأمّاً، الذي في إدّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلاّ العار والخزي والمذلّة في الأخرة والأولى، وفي الممات والمحيا، إنّ نبيّ الله قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. فألحقه بأبيه كما يُلحَقُ بالعفيف النقيّ ولدُه الرشيد! وقد أمات أبوك السُنّة جهلاً! وأحيا البدع والأحداث المظلّة عمداً!
وما أنسَ من الاشياء فلستُ بناس اطّرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول
(1) بفيك الكثكث: أي بفمك التراب والحجارة. (راجع: لسان العرب، 2:
179).
(2) ولك الأثلب: كناية عن الخيبة، والأثلب أيضاً معناه التراب والحجارة. (راجع: لسان
العرب، 1:
242).
(3) يعني به عبيد الله بن زياد بن أبيه.
الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله الى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبّوأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله فأكبر من ذلك مالم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم، وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام وعرّضه للعائر وأراقل العالم.
وأنت! لأنت المستحلّ فيما أظنّ، بل لاشك فيه أنّك للمُحرف العريف،
فإنّك حلف نسوة، صاحب ملاه، فلمّا رأى سوء رأيك شخص الى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
ثمّ إنّك الكاتب الى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالرجال، وأمرته بمعاجلته، وترك مطاولته والإلحاح عليه، حتى يقتله ومن معه من بني عبدالمطلّب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا، فنحن أولئك، لسنا كآبائك الأجلاف الجُفاة الأكباد الحمير.
ثمّ طلب الحسين بن عليّ إليه الموادعة وسألهم الرجعة،(1) فاغتنمتم قلّة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنّما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك ودّي ونصري! وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أخذ ثأري، فإن يشأ لايُطلّ لديك دمي ولا
(1) لعل ابن عباس (رض) يشير بهذا الى ـ ما روي من ـ قول الإمام الحسين(عليه السلام): «دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس.» (تاريخ الطبري، 3:
312).
أو «أيّها الناس، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم الى مأمني من الأرض» (تاريخ الطبري، 3:
318).
تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قُتل النبيّون وآل النبيين، وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً، فلا يعجبنّك أن ظفرت بنا اليوم فوالله لنظفرنّ بك يوماً.
فأمّا ماذكرت من وفائي، وما زعمت من حقّي، فإن يك ذلك كذلك، فقد والله بايعتُ أباك(1)، وإنّي لأعلم أنّ ابني عمّي وجميع بني أبي أحقّ بهذا الأمر من أبيك، ولكنكم معاشر قريش كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقّنا، فبُعداً على من يجتريء على ظلمنا، واستغوى السفهاء علينا،
وتولّى الأمر دوننا، فبُعداً لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، ومكذّبو المرسلين.
ألا ومن أعجب الأعاجيب، وما عشت أراك الدهرُ العجيبَ، حملك بنات عبدالمطلّب، وغلمة صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب، تُري الناس أنّك قهرتنا، وأنّك تأمر علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمناً لجرح يدي، إنّي لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي فلا يستقرّ بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله إلاّ قليلاً، حتّى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فَعِش لا أباً لك فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت، والسلام على من أطاع الله.».(2)
(1) وفي هذا إشارة إلى أنه لم يبايع يزيد، بل كان قد بايع معاوية بعد الصلح، لكنّ نصّ هذه الرسالة المرويّ بتفاوت كثير في بحار الأنوار: 45:323 عن (بعض كتب المناقب القديمة) فيه: «فقد والله بايعتك ومن قبلك..» وهذا كما هو ظاهر لايتلائم مع نفس متن الرسالة الطافح بالتبرّي من يزيد وفعلته.
(2) تأريخ اليعقوبي، 2:248 ـ 250; وانظر: بحار الأنوار، 45: 323.
يشترك محمد بن الحنفية(1) مع عبدالله بن عبّاس رضي الله عنهما في
(1) هو محمّد بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)، كنيته أبوالقاسم، وقد اشتهر بلقب أمّه خولة الحنفية: (ابن الحنفية)، وقيل إنها من سبي اليمامة (الذين سُبوا لولايتهم لعليّ(عليه السلام) بذريعة امتناعهم عن أداء الزكاة)، فأرادوا بيعها، فصارت إلى عليّ(عليه السلام) فتزوّجها. (راجع: تنقيح المقال 3:114; والخرايج والجرائح، 2:589; وقاموس الرجال، 9:246; والبحار، 42:84، رقم 14; وانظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 1:
243) وقيل إنها كانت أمة لبني حنيفة ولم تكن من أنفسهم (راجع: المعارف:
211).
وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقذفه في لهوات حروبه ولايسمح في ذلك بالحسنين(عليهما السلام)، وكان يقول: هو ولدي وهما إبنا رسول الله(صلى الله عليه وآله)،
وتوفي محمد بن الحنفية سنة ثمانين أو إحدى وثمانين (راجع: تنقيح المقال، 3:111 ـ
112)، أو سنة أربع وثمانين (على ما في كمال الدين وتمام النعمة، 1:
36). والملفت للإنتباه أننا لم نجد في ما أُثر عن الإمام علي(عليه السلام) ـ حسب تتبعنا ـ أنّه لقّب ولده محمداً بـ (ابن الحنفية)، كما أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لم يذكره بهذا اللقب إلا في موضعين: الأوّل ـ في وصيته إليه، وفيها: «إلى أخيه المعروف بابن الحنفية» (الفتوح، 5: 23 والبحار، 44:
329)، والثاني ـ في ذكره(عليه السلام) لحادثة كان فيها محمد، حيث يقول(عليه السلام): «وأخي محمّد بن الحنفية» (البحار 62:
193)، كما ورد لقبه هذا على لسان سلمان الفارسي أيضاً (البحار، 27:
33) لكنّ هذا اللقب تركّز على لسان الأصحاب والشيعة،
نعم أكثر من استعمل هذا اللقب من الأئمة(عليهم السلام) في ذكر محمد بن الحنفية هو الإمام الباقر(عليه السلام) ثمّ الصادق(عليه السلام).
ولعلّ السرّ في تلقيبه بهذا اللقب منذ حياة أمير المؤمنين(عليه السلام) حتى صار معروفاً به في زمن الإمام الحسين(عليه السلام)، هو معرفة أهل بيت العصمة(عليهم السلام) بأنّ أُناساً من هذه الأمّة سوف يدّعون المهدوية والغيبة لابن الحنفية وأنه هو المهديّ الموعود سيّما وأنّ إسمه محمّد وكنيته أبوالقاسم على ماسمّاه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولذا كان تأكيدهم(عليهم السلام) (خصوصاً الباقر والصادق(عليهما السلام) اللذين اقترن زمانهما بتلك الدعوى) من أجل دفع هذه الشبهة، لأنّ المهديّ(عليه السلام) من ولد فاطمة(عليها السلام) ـ كما هو الثابت المشهور في الروايات المأثورة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأهل البيت(عليهم السلام) ـ ، ومحمّد هذا وإن اشترك مع المهديّ(عليه السلام)بالإسم إلاّ أنه ليس من ولد فاطمة(عليها السلام).
الموقف من قيام الإمام الحسين(عليه السلام) بنفس المحورين الرئيسين اللذين هما:
1ـ تأييد قيام الإمام(عليه السلام).
2ـ الإعتراض على خروج الإمام(عليه السلام) الى الكوفة، وترجيح اليمن كقاعدة لانطلاق الثورة الحسينية الى جميع البلاد الاسلامية.
كما يشتركان أيضاً في أنّ نظرتهما التي انبعثت منها اقتراحاتهما ومشوراتهما كانت ترتكز على حسابات النصر الظاهري وشرائطه ولوازمه، وتتجلّى هذه الحقيقة للمتأمّل إذا نظر في محاورات الإمام(عليه السلام) مع كلّ منهما.
وكان محمّد بن الحنفية (رض) قد قدّم رأيه بين يدي الإمام(عليه السلام) في المدينة المنوّرة قائلاً: «يا أخي، أنت أحبّ الناس إليَّ، وأعزّهم عليَّ، ولستُ أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك، وأنت أحقّ بها،
تنحَّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث رسلك الى الناس فادعهم الى نفسك، فإن بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لن يُنقص الله بذلك دينك ولاعقلك، ولا تذهب بذلك مروّتك ولافضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك، فيقتتلون فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه الأمّة كلّها نفساً وأباً وأمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً !!».(1)
وقال له أيضاً: «إنزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد الى بلد، حتى تنظر الى مايصير أمر الناس اليه، فإنّك أصوب ماتكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً.».(2)
(1) الإرشاد: 201 ـ 202.
(2) المصدر السابق.
وفي رواية الفتوح: «أُخرجْ إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فذاك الذي تحبّ وأُحبّ، وإن تكن الأخرى خرجت الى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً، وأوسع الناس بلاداً، وأرجحهم عقولاً، فإن اطمأنّت بك أرض اليمن وإلا لحقت بالرمال وشعوف الجبال، وصرت من بلد الى بلد، لتنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين.».(1)
ثم تحرّك محمد بن الحنفية (رض) من المدينة إلى مكّة للقاء الإمام الحسين(عليه السلام) قبل خروجه الى العراق،(2)
ويحدّثنا التأريخ عن لقاء تمّ بينهما في مكّة في الليلة الأخيرة التي خرج الإمام(عليه السلام) في صبيحتها عن مكّة، يقول السيّد ابن طاووس (ره): «رويتُ من كتاب أصل لأحمد بن الحسين بن عمر بن بريدة الثقة، وعلى الأصل أنه كان لمحمّد بن داود القمّي، بالإسناد عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال:
سار محمّد بن الحنفية الى الحسين(عليه السلام) في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة من قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعزّ من في الحرم وأمنعه.
فقال(عليه السلام): يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون
(1) الفتوح، 5:20 ـ 21.
(2) تقول بعض المصادر التأريخية إنّ تحرّك محمد بن الحنفية من المدينة الى مكّة للقاء الامام الحسين(عليه السلام) كان على أثر الرسالة التي بعث بها الإمام(عليه السلام) الى المدينة، والتي خفَّ إليه على أثرها جماعة من بني هاشم وتبعهم محمد بن الحنفية (راجع: البداية والنهاية، 8:167 وتاريخ ابن عساكر (ترجمة الامام الحسين(عليه السلام)، تحقيق المحمودي): 204، رقم
256); وان حاول بعض المعاصرين انكار ذلك. وأنه لم يتم لابن الحنفية اي لقاء مع الحسين في غير المدينة.
الذي يُستباح به حرمة هذا البيت.
فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فَسِرْ الى اليمن أو بعض نواحي البّر، فإنّك أمنع الناس به ولايقدر عليك أحد!
فقال(عليه السلام): أنظرُ فيما قلتَ.
ولمّا كان السحر ارتحل الحسين(عليه السلام)، فبلغ ذلك ابن الحنفية، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتك!؟
قال(عليه السلام): بلى.
قال: فما حداك على الخروج عاجلاً !؟
فقال(عليه السلام): أتاني رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعد مافارقتك، فقال: ياحسين،
أُخرج فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلا!
فقال له ابن الحنفية: إنّا لله وإنا اليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال!؟
فقال(عليه السلام) له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا!
وسلّم عليه ومضى.».(1)
إشارة:
كنّا في آخر الفصل الأول تحت عنوان (لماذا حمل الإمام(عليه السلام) النساء والأطفال معه؟) قد تناولنا بعض ملامح الحكمة في قول الامام(عليه السلام) عن لسان النبيّ(صلى الله عليه وآله): «فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلا!» و«إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا!»،
(1) اللهوف: 127.
ونودُّ أن نشير هنا إلى:
1) ـ أنّ من أبعاد خشية الامام(عليه السلام) من اغتيال السلطة الأموية إيّاه في مكّة المكرّمة ـ إضافة الى جميع الأبعاد التي مرَّ ذكرها فيما مضى في ثنايا هذا الكتاب ـ هو أنّ هناك روايات مأثورة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) تندّد بالمقتول القرشيّ في مكّة، الذي تُنتهك وتستباح به حرمة البيت الحرام، وأنّ ذنوب هذا الرجل لو وزنت بذنوب الثقلين لوزنتها، وأنّ عليه نصف عذاب العالم،(1) ومعلوم أنّ السلطة الأموية سوف تطبّق هذه الروايات على الإمام الحسين(عليه السلام) لتستفيد منها إعلامياً في تنفير الناس من الامام(عليه السلام) فيما لو تمكّنت من قتله في مكّة المكرّمة.
2) ـ لم يحدّد الإمام(عليه السلام) في قوله: «أتاني رسول الله(صلى الله عليه وآله)
بعد مافارقتك» نوع هذا المجيء، هل كان في يقظة أو في منام، وإنْ كانت النتيجة واحدة، لأنّ رؤية الامام(عليه السلام) النبيّ(صلى الله عليه وآله) في المنام كرؤيته في اليقظة، ومستوى التكليف الذي يوجّهه واحد سواء في يقظة أو في منام، ولاينحصر هذا في رؤية الإمام(عليه السلام) النبيّ(صلى الله عليه وآله) بل يشمل رؤية المؤمن النبي(صلى الله عليه وآله) أيضاً، إذ قد أُثر عنه(صلى الله عليه وآله) أنه قال: «من رآني في منامه فقد رآني، فإنّ الشيطان لايتمثّل في صورتي، ولافي صورة أحد من أوصيائي، ولافي صورة أحد من شيعتهم، وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبّوة».(2)
فلا يبقى مجال إذن للتشكيك بأنّ الثورة الحسينية وخروج الامام(عليه السلام) كانا قد
(1) راجع: سير أعلام النبلاء، 3:377; وانظر: قاموس الرجال، 6:354.
(2) البحار، 58:176; ولايخفى أنّ قوله(صلى الله عليه وآله) قد شمل حتى رؤية المؤمن أحداً من أوصيائه(عليهم السلام)، أو أحداً من شيعتهم رضوان الله تعالى عليهم; وقد عقد العلاّمة المجلسي (ره) باباً «في رؤية النبي(صلى الله عليه وآله) وأوصيائه وسائر الأنبياء في المنام» وفيه بيانات وتعاليق مهمة، فراجع: البحار، 58 234.
ارتكزا على رؤيا منام لا اعتبار لها! كما تسطّر ذلك بعض الأقلام المأجورة والعقول الضعيفة.(1)
؟
لم نعثر ـ حسب تتبعنا ـ على مأثور عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بصدد علّة تخلّف محمد بن الحنفية (رض) عن الإلتحاق بالإمام الحسين(عليه السلام) سوى هذه الرواية: التي يرويها ابن فروخ صاحب «بصائر الدرجات» بسند عن حمزة بن حمران عن الإمام الصادق(عليه السلام)، يقول حمزة: «ذكرنا خروج الحسين وتخلّف ابن الحنفية عنه، قال: قال أبوعبدالله(عليه السلام): يا حمزة إنّي سأحدّثك في هذا الحديث ولاتسأل عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لمّا فصل متوجّهاً دعا بقرطاس وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ الى بني هاشم: أمّا بعدُ، فإنّه من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح. والسلام.».(2)
وقد علّق العلاّمة المجلسي (ره) على هذه الرواية تعليقتين قائلاً:
في الأولى: «قوله(عليه السلام): لم يبلغ الفتح، أي لم يبلغ ما يتمنّاه من فتوح الدنيا والتمتع
(1) انظر: كتاب شهيد آگاه: 174.
(2) بصائر الدرجات، 10:481، باب 9، حديث5، وقد رواها ابن قولويه (ره) في كامل الزيارات: 75، باب 24، حديث 15 بسند عن زرارة، عن الامام الباقر(عليه السلام) قال: «كتب الحسين بن علي من مكّة الى محمّد بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي إلى محمّد بن عليّ ومن قِبَله من بني هاشم: أمّا بعدُ، فإنّ من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح، والسلام»، وقد رويت أيضاً عن كتاب الرسائل للكليني بسند آخر عن حمزة بن حمران، عن الامام الصادق(عليه السلام)، وفيها: «ياحمزة إنّي سأخبرك بحديث لاتسأل عنه بعد مجلسك هذا...» (البحار، 44:330 باب
37).
بها، وظاهر الجواب ذمّه، ويحتمل أن يكون المعنى أنه(عليه السلام) خيّرهم في ذلك، فلا إثم على من تخلّف!»(1).
وفي الثانية: «ومن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح، اي لايتيسّر له فتح وفلاح في الدنيا أو في الآخرة، أو الأعمّ، وهذا إمّا تعليل بأنّ ابن الحنفية إنّما لم يلحق لأنه علم أنّة يُقتل إن ذهب بإخباره(عليه السلام)، أو بيان لحرمانه عن تلك السعادة، أو لأنّه لاعُذر له في ذلك لأنه أعلمه وأمثاله بذلك!»(2).
ونقول: إنّ نصّ هذه الرسالة الشريفة ـ بغضّ النظر عن حقيقة المراد بالفتح(3)فيها ـ يقرّر بلا شك أنّ من لم يلتحق بالامام(عليه السلام) محروم من مبلغ الفتح هذا، سواء كان معذوراً أو غير معذور، فلا دليل من نفس النصّ على أنّ كلّ من تخلّف غيرُ معذور ويُذمّ، كما هو المستفاد من ظاهر تعليقتي العلاّمة المجلسيّ (ره)(4) من أنّ كلّ من بلغته هذه الرسالة ليس بمعذور لأنّ الإمام(عليه السلام) أعلمه فيها بالمصير!(5) هذا
(1) بحار الانوار، 42:81، باب 120، حديث 12.
(2) نفس المصدر، 44:360، باب 37.
(3) لقد مضى القول بالتفصيل في معنى هذا الفتح، في الجزء الأوّل من هذا الكتاب في مقالة (بين يدي الشهيد الفاتح)، كما تعرضنا له في هذا الجزء أيضاً في الفصل الأوّل منه عند ذكرنا لهذه الرسالة من (رسائل الامام(عليه السلام)) وتعليقتنا عليها.
(4) لايخفى على المتأمل في تعليقة العلامة المجلسي الثانية ما فيها من قسوة ـ نراها غير مقصودة ـ بحقّ ابن الحنفية، ذلك البطل الذي كان أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) يلقيه في لهوات حروبه فما يرهب الموت والقتل، وكان معتقداً بإمامة الحسنين(عليهما السلام) وإمامة السجّاد(عليه السلام)، عارفاً بحقّهم، وقد أجمع علماء الرجال الشيعة على مدحه والثناء عليه.
(5) يبدو أنّ التغليب هو المراد بقوله(عليه السلام) «من لحق بي استشهد» إذ إنّ أفراداً هناك ممّن التحقوا به(عليه السلام) لم يُستشهدوا وسلموا من القتل كالحسن المثنى وغيره، هذا إذا كان المراد هنا من الاستشهاد: القتل في سبيل الله، والله العالم.
فضلاً عن المناقشة الموجودة في سند هذه الرواية.(1)
ولعلّ الإمام الصادق(عليه السلام) أراد أن يصرف اهتمام المتذاكرين في سبب تخلّف ابن الحنفية الى ما هو أهمّ من أن يكون المتخلّف معذوراً أو غير معذور، وهذا الأهمّ هو أصل الحرمان من بلوغ منزلة «أنصار الحسين(عليه السلام)» الذين لم يسبقهم
(1) فالرواية على فرض دلالتها على توبيخ المتخلّف سيما ابن الحنفية (رض) ـ كما استفاد منها العلاّمة المجلسي (ره) والوحيد البهبهاني (ره) ـ فهي مورد نقاش في السند، لأنّ في سندها مروان بن إسماعيل وهو مهمل، إذ لم يرد له ذكر في الكتب الرجالية أصلاً، وفيه أيضاً حمزة بن حمران الشيباني الذي لم يرد فيه توثيق إلاّ انه من مشايخ ابن أبي عمير وصفوان من أصحاب الإجماع، وقيل إنّ هذا مشعرٌ بوثاقته (كما عن تنقيح المقال، 1:
374)، لكنّ هذا المبنى مورد للنقاش والردّ (كما عن معجم رجال الحديث، 6:
266)،
والتجأ البعض الى طرق أخرى لتوثيقه وهي أيضاً مخدوشة (انظر: قاموس الرجال، 4:
28)، كما أنّ السيد محمد بن أبي طالب صاحب كتاب (تسلية المجالس) نقلها عن كتاب الرسائل للكليني ولايُعلم طريقه إليه.
ومن الجدير بالذكر أنّ المامقاني يتبنّى رأي الوحيد البهبهاني في أنّ نفس الذمّ الذي قد يُستفاد من هذه الرواية بحق ابن الحنفية قد يكون مقصوداً لمصلحة ما كان الإمام(عليه السلام) ناظراً إليها، يقول المامقاني: «وأمّا تخلّفه عن الحسين(عليه السلام) فلعلّه كان لعذر أو مصلحة، والرواية الواردة في ذمّة (ولعلّه يقصد نفس هذه الرواية) إن كانت صحيحة فلعلّه أيضاً كانت لمصلحة كما نبّه على ذلك المولى الوحيد(قدس).» (تنقيح المقال، 3:
115).
[249]
[250]
[251]
[252]
[253]
تحرّك محمد بن الحنفية (رض)
[254]
[255]
[256]
[257]
[258]
لماذا تخلّف محمّد بن الحنفية عن الإمام(عليه السلام)
[259]
[260]