(1) انظر: سير أعلام النبلاء، 3:456.
(2) كما ورد ذلك في رسالة عبدالله بن جعفر الى الامام(عليه السلام) على ما في رواية الفتوح، 5:75 وكذلك تأريخ الطبري، 3:296.
(3) الفتوح، 5:75 وعنه الخوارزمي في المقتل، 1:312 / لكنّه ذكر أنه كتبها إليه من المدينة.
(4) وهكذا في الكامل لابن الاثير، 2:548 وفي البداية والنهاية، 8:169.
عمرو بن سعيد كتاباً...»،(1) فتأمّل!
وأمّا قصة التحاق ابنيه عون ومحمّد(2) بالإمام(عليه السلام)...
فإنّ ظاهر القرائن التأريخية يفيد أنهما كانا مع أبيهما، ثمّ التحقا بالإمام(عليه السلام)وانضمّا إلى الركب الحسيني بعد خروجه من مكّة بعلم من أبيهما وبإذنه، يقول الشيخ المفيد (ره): «فلمّا أيس منه عبدالله بن جعفر (ره) أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه، ورجع مع يحيى بن سعيد الى مكّة.».(3)
وقد كان إبناه محمد وعون حاملي رسالة أبيهما الى الامام(عليه السلام) قبل ذلك على ما في رواية الطبري والمفيد،(4) وإن كان سياق القصة على ما في رواية الفتوح أنه بعثهما برسالته من المدينة الى الامام(عليه السلام) في مكّة،(5) وهذا ما ذهب اليه ابن الصبّاغ أيضاً في الفصول المهمة حيث قال: «ثمّ إنّه وردت على الحسين(عليه السلام) كتب من أهل المدينة من عند عبدالله بن جعفر على يدي ابنيه عون ومحمّد، ومن سعيد بن العاص ومعه جماعة من أعيان المدينة...».(6)
وإرسال عبدالله بن جعفر (رض) ولديه عوناً ومحمّداً ليجاهدا دون
(1) الارشاد: 219.
(2) عون وأمّه زينب بنت عليّ(عليهما السلام)، ومحمّد وأمّه الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف بن ربيعة... بن بكر بن وائل (راجع: إبصار العين: 75 ـ
77).
(3) الارشاد: 219.
(4) تأريخ الطبري، 3:297 والارشاد: 219.
(5) الفتوح، 5:75 والخوارزمي في المقتل، 1:311.
(6) الفصول المهمة: 187 ونور الأبصار: 258 / أمّا ابن عبد ربّه فعلى عادته في قلب الحقائق، قال في كتابه: «أرسل عبدالله بن جعفر ابنيه عوناً ومحمّداً ليردّا حسيناً! فأبى حسين أن يرجع! وخرج إبنا عبدالله بن جعفر معه!» (العقد الفريد: 4:
377).
الامام(عليه السلام) وليستشهدا بين يديه دليل تام على تأييده النهضة الحسينية، وهنا يلمح المتأمّل أنّ عبدالله بن جعفر يشترك مع ابن الحنفية وابن عباس في أصل تأييد قيام الامام(عليه السلام) وفي أصل معارضة خروجه الى العراق..
ومن الروايات الكاشفة عن تأييده (رض) لقيام الامام(عليه السلام)، ما رواه الشيخ المفيد (ره) قائلاً: «ودخل بعض موالي عبدالله بن جعفر بن أبي طالب(عليهم السلام) فنعى إليه ابنيه، فاسترجع، قال أبو السلاسل (أبو اللسلاس)(1) مولى عبدالله: هذا مالقينا من الحسين بن عليّ!
فحذفه عبدالله بن جعفر بنعله، ثم قال: يا ابن اللخناء، أللحسين(عليه السلام) تقول هذا!؟ والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أُقتل معه! والله إنه لممّا يسخّي نفسي عنهما ويعزّي عن المصاب بهما أنهما أُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له، صابرين معه.
ثمّ أقبل على جلسائه فقال: الحمدُ للّه، عزَّ عليَّ مصرع الحسين، إن لا أكن آسيت حسيناً بيدي فقد آساه ولداي.».(2)
وجدير بالذكر هنا أن نضيف أنّ أبا الفرج الأصبهاني روى أنّ لعبدالله بن جعفر (رض) ولداً آخر أسمه عبيدالله، وأمّه الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف، قُتل أيضاً في كربلاء بين يدي الامام الحسين(عليه السلام)، وهو أخو محمد بن عبدالله بن جعفر (رض) لأمّه وأبيه.(3)
(1) كما ضبطها المحقّق السماوي (راجع: ابصار العين:
76).
(2) الارشاد: 247، والكامل في التأريخ: 2:579 والطبري: 3:342.
(3) راجع: مقاتل الطالبيين: 61 وعنه البحار، 45:34.
لم نعثر ـ بحسب تتبعنا ـ على من تأمّل في جلالة عبدالله بن جعفر (رض)، لا في كتبنا ولا في كتب السنّة، فكأنّ جلالة قدر عبدالله بن جعفر (رض) أمرٌ متسالم ومتّفق عليه.
فالعلاّمة الحلّي (ره) ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ يقول فيه وفي محمّد بن الحنفية رضوان الله عليهما: «والسيّد محمّد بن الحنفية وعبدالله بن جعفر وأمثالهم أجل قدراً وأعظم شأناً من اعتقادهم خلاف الحقّ وخروجهم عن الإيمان...».(1)
ويقول السيّد الخوئي (ره): «جلالة عبدالله بن جعفر الطيّار بن أبي طالب بمرتبة لا حاجة معها إلى الإطراء..».(2)
ويقول الذهبي: «عبدالله بن جعفر، السيّد العالم.. كان كبير الشأن، كريماً جواداً، يصلح للإمامة..»(3).
ولا شك أنّ المتتبّع العارف بسيرة عبدالله بن جعفر (رض)، وبأخباره، وبمواقفه الجريئة في الدفاع عن الحق ودحض الباطل، وبانقطاعه الى عمّه أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) والحسنين(عليهما السلام) من بعده، وبمعرفته بأئمته الذين فرض الله طاعتهم وولايتهم،(4) وبعلاقته الحميمة بالامام الحسين(عليه السلام) وبقربه منه، يقطع مطمئنّاً بأنّ هذا السيّد الهاشميّ الإماميّ الشجاع البصير المنقطع الى الامام
(1) المسائل المهنائية: 38، المسألة 33.
(2) معجم رجال الحديث: 10:138، رقم 6751
(3) سير أعلام النبلاء: 3:456.
(4) راجع: الخصال: 2:477، باب 12، رقم 41.
الحسين(عليه السلام) كان عارفاً بفرض امتثال أمر إمامه(عليه السلام)، وبوجوب نصرته، فلابدّ أنّه كان معذوراً في عدم التحاقه بالركب الحسيني، وكيف يتخلّف بلا عذر وقد خرجت زوجته وابنة عمّه المكرّمة زينب الكبرى بنت عليّ(عليهما السلام)، وخرج ولداه ـ أو أولاده ـ مع الامام(عليه السلام) في رحلة الفتح بالشهادة!؟
إنّ من يواسي الامام(عليه السلام) بأعزَّ ما عنده من أهل بيته لابدّ وأن يكون تخلّفه عن الإمام(عليه السلام) على كُرْه منه بسبب عُذر قاهر!
يقول المامقاني (ره) : «وقد واساه بولده عون ومحمّد وعبدالله، قُتلوا معه بالطفّ لما كان هو معذوراً في الخروج معه.».(1)
أمّا ما هو عذره في عدم الإلتحاق بالامام(عليه السلام)، فإننا لم نعثر ـ مع تتبع غير يسيرـ على مصدر يشخّص نوع هذا العذر، إلاّ ما وجدناه في كتاب (زينب الكبرى) للمحقّق الشيخ جعفر النقدي، حيث يقول: «أمّا عدم خروجه مع الحسين(عليه السلام) الى كربلاء فقد قيل إنه مكفوف البصر!».(2)
(1) تنقيح المقال: 2:173.
(2) زينب الكبرى: 87.
لم يستثقل عبدالله بن الزبير(1) وجود الإمام الحسين(عليه السلام) من قبلُ في أيّ مكان
(1) عبدالله بن الزبير بن العوّام: وأمّه أسماء بنت أبي بكر، وقيل: إنه ولد في السنة الأولى أو السنّة الثانية من الهجرة، وقد عُدَّ من صغار الصحابة (راجع: سير أعلام النبلاء، 3:
364)، وهو الذي قال له النبيّ(صلى الله عليه وآله) ـ حين شرب دم حجامته ـ ويلٌ للناس منك!، وهو الذي كان يخالف السنّة الثابتة ويواصل في الصوم سبعة أيّام، وإن حاول الذهبي الإعتذار عنه بقوله: لعلّه ما بلغه النهي عن الوصال! (راجع: سير أعلام النبلاء، 3:
366)، وهو الذي ركع فقرأ في ركوعه البقرة وآل عمران والنساء والمائدة،
مع النهي الوارد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإن حاول الذهبي أيضاً الإعتذار عنه بقوله: بأنّ ابن الزبير لم يبلغه حديث النهي! (راجع: سير أعلام النبلاء، 3:
369).
وقد وصفه أمير المؤمنين(عليه السلام) في واحد من أخباره بالمغيّبات قائلاً: «خَبٌّ، ضبٌّ، يروم أمراً ولايُدركه، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بعدُ مصلوب قريش!». (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 7:
24).
وكان ابن الزبير قد رغّب عثمان بن عفّان ـ أثناء الحصار ـ بالتحوّل الى مكّة، لكنّ عثمان أبى ذلك قائلاً: إنّي سمعتُ رسول الله يقول: يُلحد بمكّة كبش من قريش إسمه عبدالله، عليه مثل نصف أوزار الناس. (راجع: سير أعلام النبلاء:3:
375).
وقد حذّره عبدالله بن عمرو بقوله: «إيّاك والإلحاد في حرم الله، فأشهد لسمعتُ رسول الله يقول: يُحلّها ـ وتحل به ـ رجل من قريش لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها، (سير أعلام
النبلاء، 3:
378).
وكان عبدالله بن الزبير من أهمّ العوامل التي أثّرت في تغيير مسار أبيه، وفي هذا يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «مازال الزبير منّا حتّى نشأ ابنه عبدالله!» (بحار الانوار، 34:
289)، وهو الذي حرّض عائشة على مواصلة المسير الى البصرة حين قصدت الرجوع بعد نباح كلاب الحوأب عليها، وهو الذي بقي أربعين يوماً لايصلّي على النبيّ(صلى الله عليه وآله) في خطبته حتى التأت عليه الناس، فقال: إنّ له أهل بيت سوء! إذا ذكرته اشرأبّت نفوسهم إليه وفرحوا بذلك، فلا أحبّ أن أقرّ أعينهم بذلك! (راجع: العقد الفريد، 4:413 وبحار الأنوار، 48:
183)، وهو الذي دعا ابن عباس ومحمّد بن الحنفية وجماعة من بني هاشم إلى بيعته، فلمّا أبوا عليه جعل يشتمهم ويتناولهم على المنبر.. ثمّ قال:
لتبايعن أو لأحرقنّكم بالنار! فأبوا عليه، فحبس محمد بن الحنفية في خمسة عشر من بني هاشم في السجن (العقد الفريد، 4:413 وانظر: مروج الذهب: 3:86/الطبعة الميمنيّة).
وقد كان ابن الزبير يبغض بني هاشم ويلعن عليّاً(عليه السلام) ويسبّه، وكان حريصاً جدّاً على الإمارة والسلطة، وكان يدعو الناس الى طلب الثأر قبل موت يزيد، فلمّا مات طلب الملك لنفسه لا للثار. (راجع: مستدركات علم الرجال، 5:
18).
وكان ابن الزبير هذا متصّفاً بصفات وخِلال تنافي أخلاقيات الرئاسة ولايصلح معها للخلافة، إذ كان بخيلاً، سيىء الخلق، حسوداً، كثير الخلاف ولذا تراه أخرج ابن الحنفية، ونفى ابن عباس الى الطائف (راجع: فوات الوفيات، 1:
448).
وقد عانى الناس أيّام سلطته القصيرة أنواع البؤس والجوع والحرمان، وخصوصاً الموالي فقد لاقوا منه أنواع الضيق حتى أنشد شاعرهم فيه:
(راجع: مروج الذهب، 3:
22).
وكان تصنّعه النسك والتقشّف والتقوى لصيد البسطاء وإغراء السذّج من هذه الأمّة، ويُنقل أنّ زوجة عبدالله بن عمر ألحّت عليه أن يبايع ابن الزبير لما رأت من ظاهر طاعته وتقواه، فقال لها ابن عمر: أما رأيتِ بغلات معاوية التي كان يحجُّ عليها الشهباء!؟ فإنّ ابن الزبير ما يريد غيرهنّ!!. (راجع: حياة الامام الحسين بن علي(عليهم السلام)، 2:310 عن المختار:
95).
ـ بعد موقعة الجمل ـ كما أستثقله في مكّة المكرّمة أيّام تواجد الإمام(عليه السلام) فيها بعد رفضه البيعة ليزيد، ذلك لأنّ ابن الزبير كان قد نوى منذ البدء أن يتّخذ مكّة المكرّمة منطلقاً للتمرّد على السلطة الأموية ومركزاً لإدارة أمور البلدان الأخرى في حال نجاحه في مسعاه، ولذا فقد كان في حاجة ماسّة إلى أن يخلو له وجه مكّة من أي منافس، وتصفو له من كلّ مزاحم، فما بالك بمزاحم ومنافس لايرى الناس ابن
الزبير قباله شيئاً مذكوراً !؟ ولايعبأون بحضوره أو بغيابه إذا حضر ذلك الشخص المبجّل عندهم !؟.
فمع وجود الإمام الحسين(عليه السلام) في مكّة المكرّمة كانت الارض قد ضاقت على ابن الزبير بما رحبت، وضاقت عليه حرجاً أنفاسه كأنما يصّعدُ في السماء، لكنه كان يُداري حراجة تلك الأيّام باستظهار هدوء مفتعل، وصبر مصطنع، ويتكتّم على حسده وغِلّه ونواياه بما هو فوق طاقته!
يقول التأريخ: «واشتدّ ذلك على ابن الزبير لأنه كان قد طمع أن يبايعه أهل مكّة، فلمّا قدم الحسين شقّ ذلك عليه، غير أنه لايُبدي ما في قلبه الى الحسين، لكنّه يختلف إليه ويصلّي بصلاته، ويقعد عنده ويسمع حديثه، وهو يعلم أنه لايبايعه أحدٌ من أهل مكّة والحسين بن عليّ بها، لأنّ الحسين عندهم أعظم في أنفسهم من ابن الزبير.».(1)
«وأمّا ابن الزبير فإنه لزم مصلاّه عند الكعبة، وجعل يتردد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولايمكنه أن يتحرّك بشيء مما في نفسه مع وجود الحسين، لِما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إيّاه عليه... بل الناس إنّما ميلهم الى الحسين لأنه السيّد الكبير، وابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فليس على وجه الأرض يومئذ أحدٌ يساميه ولايساويه...».(2)
من هنا كان كلُّ همِّ عبدالله بن الزبير وأقصى أُمنيته أن يخرج الإمام الحسين(عليه السلام) من مكّة لتخلو له، وكان ابن الزبير يظنّ أنّ مايضمره خاف على
(1) الفتوح، 5:26 وإعلام الورى: 223 وانظر البداية والنهاية، 8:153 وكذلك روضة الواعظين: 172.
(2) البداية والنهاية، 8:153 وانظر: تأريخ الاسلام: 268.
الإمام(عليه السلام) وعلى الآخرين من وجهاء الأمّة وأعلامها، غير أنّ أمره كان أظهر من أن يخفى على ذي فطنة كابن عباس مثلاً، فما بالك بالإمام(عليه السلام) !؟
يروي الطبري أنّ ابن الزبير أتى الإمام الحسين(عليه السلام) ـ بعد خروج ابن عباس (رض) من عند الإمام(عليه السلام)! ـ فحدّثه ساعة، ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة الأمر دونهم!؟ خبّرني ما تريد أن تصنع؟
فقال الحسين(عليه السلام): واللّه لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليَّ شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير الله.
فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها! ثمّ خشي أن يتّهمه فقال: أما إنّك لو أقمت بالحجاز ثمّ أردتَ هذا الأمر ها هنا ماخولف عليك إن شاء الله!
ثم قام فخرج من عنده.
فقال الحسين(عليه السلام): «ها إنّ هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز الى العراق، وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ الناس لم يعدلوه بي فودَّ أنّي خرجت منها لتخلو له.».(1)
ويروي ابن عساكر عن معمر، عن رجل أنه سمع الإمام الحسين بن عليّ(عليهما السلام) يقول لابن الزبير: «أتتني بيعة أربعين ألفاً يحلفون لي بالطلاق والعتاق
(1) تأريخ الطبري، 3:295 وانظر: الكامل في التأريخ، 2:546 والبداية والنهاية، 8:172 وشرح الأخبار، 3:145.
وقال المزي في تهذيب الكمال، 4:489: «وكان ابن الزبير يغدو ويروح الى الحسين ويشير عليه أن يقدم العراق، ويقول: هم شيعتك وشيعة أبيك!».
من أهل الكوفة ـ أوقال من أهل العراق ـ .
فقال له عبدالله بن الزبير: أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك!؟».(1)
ويروي الطبري أيضاً عن عبدالله بن سليم والمُذري بن المشمعّل الأسديين أنهما رأيا ـ يوم التروية ! ـ فيما بين الحجر وباب الكعبة كُلاًّ من الإمام الحسين(عليه السلام)وعبدالله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى، وسمعا ابن الزبير يقول للإمام(عليه السلام): «إنْ شئت أن تقيم أقمتَ فَوُلِّيتَ هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك!
فقال له الحسين(عليه السلام): إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها! فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش!
فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت وتولّيني أنا الأمر، فتُطاع ولاتُعصى!
فقال(عليه السلام): وما أريد هذا أيضاً!».(2)
أمّا الدينوري فيروي قائلاً: «وبلغ عبدالله بن الزبير ما يهمُّ به الحسين، فأقبل حتى دخل عليه، فقال له: لو أقمت بهذا الحرم، وبثثت رسلك في البلدان، وكتبت إلى شيعتك بالعراق أن يقدموا عليك، فإذا قوي أمرك نفيتُ عمّال يزيد عن هذا
(1) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين / تحقيق المحمودي): 194، رقم 249.
(2) تأريخ الطبري، 3:295 / والمُلفت للإنتباه في هذه الرواية أيضاً أنّ هذين الراويين الأسديين في ختام هذه الرواية قالا: «ثمّ إنهما أخفيا كلامهما دوننا، فمازالا يتناجيان حتى سمعنا دعاء الناس رائحين متوجهين إلى منى عند الظهر، فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصّ من مشعره، وحلّ من عمرته، ثمّ توجّه نحو الكوفة، وتوجّهنا نحو الناس إلى منى!» وهذا خلاف المشهور في أنّ الإمام(عليه السلام) خرج من مكّة أوائل الصبح يوم التروية، وخلاف قول الإمام الحسين نفسه(عليه السلام): «.. فإنّي راحل مصبحاً..» فتأمّل!
البلد، وعليَّ لك المكانفة والمؤازرة، وإن عملتَ بمشورتي طلبتَ هذا الأمر بالحرم، فإنّه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار، لم يعدمك بإذن الله إدراك ما تريد، ورجوتُ أن تناله!».(1)
وفي رواية أخرى عن أبي مخنف عن أبي سعيد عقيصا،(2) عن بعض أصحابه قال سمعت الحسين بن عليّ وهو بمكّة وهو واقف مع عبدالله بن الزبير فقال له ابن الزبير: إليَّ يا ابن فاطمة!
فأصغى إليه، فسارّه، ثمّ التفت إلينا الحسين(عليه السلام)
(1) الأخبار الطوال: 244.
(2) وهو دينار، وكنيته أبوسعيد، ولقّب بعقيصا لشعر قاله، وعدّه جماعة من علماء الرجال الشيعة في اصحاب عليّ(عليه السلام) وأصحاب الحسين(عليه السلام) (راجع: معجم رجال الحديث، 7:147 رقم 4461 وتنقيح المقال، 1:419 ومستدركات علم الرجال، 3:
375) وقد روى الصدوق (ره) بإسناده عنه، عن الحسين(عليه السلام) رواية شريفة عظيمة في الفضائل (راجع: البحار، 39:
239)، وروى عن الامام الحسن المجتبى(عليه السلام) ردّه على من لامه على صلحه مع معاوية، ردّاً حوى بيانات مهمة في الإمامة وفي القائم(عليه السلام) (راجع: كمال الدين: 1:315، باب 29، رقم
2)، وفي ذلك دلالات على حسن أبي سعيد عقيصا وكماله. قال المامقانى في ثنايا ترجمته لعقيصا: «.. وظاهره كونه إمامياً... لكن لم يرد فيه مدحٌ يُدرجه في الحسان، فهو إماميٌّ مجهول الحال.» (تنقيح المقال، 1:
419). وقد عنونه الخطيب البغدادي بلفظ عقيصا، وروى عنه خبر العين في طريق صفّين، وأنّ الراهب قال لأمير المؤمنين(عليه السلام): «لايستخرجها إلاّ نبيٌّ أو وصيّ»، ونقل البغدادي عن يحيى بن معين أنه ذكر رشيد الهجري وحبة العرني والأصبغ بن نباتة بسوء المذهب !! وقال: عقيصا شرٌّ منهم !! (تاريخ بغداد: 12:
305). قال التستري تعليقاً على كلام ابن معين: «ذنبهم عند يحيى تشيعهم «ومانقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد» (قاموس الرجال، 4:
298).
أقول: غاية ما وصل إلينا عنه أنّه شيعيٌّ، وأمّا عدالته، وسرّ عدم إلتحاقه بالإمام الحسين(عليه السلام)فالتأريخ ساكت عنه، ولم يُعرف عنه شيء!
فقال: أتدرون ما يقول ابن الزبير؟
فقلنا: لاندري، جعلنا فداك!
فقال: قال أَقِمْ في هذا المسجد أجمع لك الناس!
ثمّ قال الحسين(عليه السلام): والله لئن أُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أن أُقتل داخلاً منها بشبر!، وأيمُ الله لو كنت في جُحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم!، والله ليعتدُنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت!».(1)
أمّا ابن قولويه (ره) فيروي (بسند) عن سعيد عقيصا قال:
سمعت الحسين بن عليّ(عليهما السلام) وخلا به عبدالله بن الزبير فناجاه طويلاً، ثمَّ أقبل الحسين(عليه السلام) بوجهه إليهم وقال: إنّ هذا يقول لي: كن حماماً من حمام الحرم، ولأن أقتل وبيني وبين الحرم باعٌ أحبّ إليَّ من أن أقتل وبيني وبينه شبر، ولأن أُقتل بالطفّ أحبّ إليَّ من أن أُقتل بالحرم».(2)
ويروي ابن قولويه (ره) أيضاً عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال:
«قال عبدالله بن الزبير للحسين(عليه السلام): ولو جئت إلى مكّة فكنتَ بالحرم!(3)
(1) تاريخ الطبري، 3:295 والكامل في التاريخ، 2:546.
(2) كامل الزيارات: 72 وعنه البحار، 45:85، رقم 16.
(3) قد يُستفاد من قول ابن الزبير (ولوجئت الى مكّة) أنّ هذه المحاورة ليست من وقائع مكّة، غير أنّ من المحتمل أيضاً أن يكون ابن الزبير قد شيّع الإمام(عليه السلام) الى أطراف مكّة ثم قال له هذا القول فيكون معناه (لو عُدتَ الى مكّة)، وهذا ما تشعر به الرواية التي بعد هذه.
فقال الحسين(عليه السلام): لا نَستحلّها، ولاتُستحلُّ بنا، ولأن أُقتل على تل أعفر(1) أحبّ إليَّ من أن أُقتل بها».(2)
ويروي ابن قولويه (ره) أيضاً عن الإمام أبي جعفر(عليه السلام) أنّ ابن الزبير شيّع الإمام الحسين(عليه السلام): «فقال: يا أبا عبدالله، قد حضر الحجُّ وتدعه وتأتي العراق!؟
فقال:يا ابن الزبير، لأن أُدفن بشاطيء الفرات أحبّ إليّ من أن أُدفن بفناء الكعبة!».(3)
وروى السيّد ابن طاووس (ره) أنّ عبدالله بن العبّاس (رض) وعبدالله بن الزبير جاءا الى الإمام(عليه السلام) فأشارا عليه بالإمساك، فقال لهما: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه!».(4)
ويبدو أنّ ابن الزبير ـ من جملة محاوراته مع الإمام(عليه السلام) ومن مجموع الإخبارات المتناقلة آنذاك عن مصرع الامام(عليه السلام) ـ كان يعلم أنّ الإمام(عليه السلام) سوف يُقتل في سفره هذا الى العراق لا محالة، وأنّ ذلك آخر العهد به(عليه السلام)، فحرص في اللحظات الأخيرة على الإستفادة من علم الإمام(عليه السلام)، فسأله قائلاً: «يا ابن رسول الله، لعلّنا لانلتقي بعد اليوم، فأخبرني متى يرث المولود ويورث؟ وعن جوائز السلطان هل تحلّ أم لا؟».
فأجابه(عليه السلام): «أمّا المولود فإذا استهلّ صارخاً.. وأمّا جوائز السلطان فحلال مالم يغصب الأموال.».(5)
(1) تل أعفر: موضع من بلاد ربيعة (راجع: البحار: 45:
86)
(2) كامل الزيارات: 73 وعنه البحار: 45:85 ـ 86، رقم 17.
(3) كامل الزيارات: 73 وعنه البحار: 45:86، رقم 18.
(4) اللهوف: 101.
(5) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليّ(عليهما السلام) 3:52 عن مرآة الزمان في تواريخ الأعيان.
1) ـ في محاوراته مع الإمام(عليه السلام) كان ابن الزبير يناقض نفسه في نصائحه ومشوراته، فمرّة يستظهر خلاف ما يستبطن فيشير على الإمام(عليه السلام) بالبقاء في مكّة!، وأخرى يغفل عن تصنّعه فتظهر أمنيّة قلبه في فلتات لسانه فيحثّ الامام(عليه السلام) على الخروج الى العراق!، وقد يعارض نفسه في المحاورة الواحدة فيشير في أوّلها بالخروج ثم يستدرك فيشير بالبقاء خوفاً من أن يُتّهم بما يُكنُّ في نفسه! وقد ينسى نفسه وماحوله فيطلب من الإمام(عليه السلام) أن يوليّه الأمر !!
2) ـ ويلاحظ على ابن الزبير أيضاً أنّ «حبّ الرئاسة» قد طغى على قلبه وهيمن على تفكيره إلى درجة أنساه عندها حتى الفرق الهائل بين قعر الوهدة وذروة القمة حين تعامى عن الفرق الكبير بينه وبين الإمام(عليه السلام)! فعدَّ نفسه ـ كما الإمام(عليه السلام)! ـ من ولاة الأمر وأصحاب الحقّ بالخلافة حيث يقول: «ونحن أبناء المهاجرين وولاة الأمر دونهم!»، بل يغلب حبّ الرئاسة على عقله الى درجة يفقد عندها توازنه فيعمى عن حقائق الأشياء وموازينها ـ فيما يمكن ومالا يمكن ـ فلا يرى مانعاً من أن يكون هو الخليفة حتّى مع وجود الإمام(عليه السلام) حيث يخاطبه قائلاً: «فأَقم إن شئت وتولّيني أنا الأمر..!!».
[274]
[275]
[276]
لماذا لم يلتحق عبد الله بن جعفر (رض) بالامام(عليه السلام)
[277]
[278]
عبدالله بن الزبير.. والنصائح المتناقضة !
[279]
[280]
[281]
[282]
[283]
[284]
[285]
[286]
تأمّل وملاحظات: